الولاء المشروط.. سياسة إسرائيل تجاه الدروز من فلسطين إلى سوريا
11 سبتمبر 2025
لطالما استخدمت إسرائيل الطائفة الدرزية في فلسطين كورقة ضغط سياسية، ومؤخرا كذريعة لتوسيع نفوذها خارج حدودها. وعلى غرار ما فعتله في الجولان المحتل، تسعى إسرائيل اليوم إلى كسب دعم الدروز في السويداء، عبر تقديم امتيازات من جهة، وتحريضهم ضد الحكومة السورية الجديدة من جهة أخرى.
وتطمح إسرائيل إلى استخدام الدروز في سوريا لأغراضها الاستراتيجية، تماما كما استخدمت الدروز الفلسطينيين، عبر منحهم بعض الفرص. وتسعى من خلال الطائفة الدرزية إلى زعزعة استقرار سوريا - الذي ترى فيه تهديدا لمصالحها - وتهيئة المنطقة لمشاريعها التوسعية.
لم تختلف السياسات الإسرائيلية تجاه الدروز الفلسطينيين في المجالات المدنية عن سياساتها تجاه بقية المواطنين الفلسطينيين، حيث شملت مصادرة الأراضي، والتمييز في مجالي التعليم والعمل، والإقصاء من دولة تعرّف نفسها بأنها يهودية. في حين فُرض على الدروز التجنيد الإجباري في محاولة لفصلهم عن بقية مكونات المجتمع الفلسطيني.
في هذا المقال نتتبع السياسات الإسرائيلية منذ نشأة الكيان تجاه الطائفة الدرزية الفلسطينية، ونحلل كيف وظّفت إسرائيل أسلوب "العصا والجزرة" –عبر منح الامتيازات وفرض القيود - لاحتواء وتدجين الاحتجاج الدرزي ضمن منظومة الولاء للدولة.
ينظر إلى الديانة الدرزية، التي ظهرت في مصر في القرن الحادي عشر، على أنها مزيج ديني يجمع بين الإسلام واليهودية والمسيحية، ويتميز الدروز ببنية اجتماعية منغلقة إذ لا يتزوجون من خارج طائفتهم، ويحافظون على درجة من السرية في ممارسة شعائرهم الدينية.
يعيش الدروز كأقليات صغيرة في فلسطين وسوريا ولبنان، إذ يبلغ عددهم في فلسطين المحتلة نحو 150 ألف نسمة، يتوزعون على حوالي عشرين قرية وبلدة في منطقتي الجليل وجبل الكرمل، إلى جانب وجودهم في الجولان المحتل. وعلى عكس نظرائهم في سوريا ولبنان الذين انخرطوا بفاعلية في الحركات القومية واليسارية، كان حضور الطائفة الدرزية ضعيفا في السياق الفلسطيني العام.
في ظل الانتداب البريطاني (1918–1948)، كان الدروز جزءا من المجتمع الريفي الفلسطيني، لكنهم ظلوا على هامش الحركة الوطنية، نتيجة الانقسام بين النخبة السياسية والفلاحين. وبعد فشل ثورة 1936–1939، وضعت الحركة الصهيونية خطة عام 1939 لاستمالة بعض وجهاء الدروز واستخدامهم كأداة لضرب الوحدة العربية. ورغم تعاون بعض القادة، لم يشارك غالبية الدروز الفلسطينيين في القتال عام 1948، ولم يتعرضوا للترحيل.
ترتبط بداية الاحتجاج السياسي الدرزي بفرض التجنيد الإجباري. إذ أنشأت إسرائيل "وحدة الأقليات" للدروز فقط، منفصلة عن بقية الجيش. ونجحت في إسكات الأصوات المعارضة عبر التلاعب بالقيادة الروحية للطائفة، التي باركت الخدمة العسكرية لاحقا وبررتها بوجوب ولاء الطائفة للحاكم القائم.
بعد فشل ثورة 1936–1939، وضعت الحركة الصهيونية خطة عام 1939 لاستمالة بعض وجهاء الدروز واستخدامهم كأداة لضرب الوحدة العربية.
في نيسان/ أبريل 1965، نظّم مجموعة من الشباب الدروز المثقفين، من بينهم الشاعر سميح القاسم، ما يُعرف باسم "الشباب الدروز الأحرار"، وطالبوا برفع الخدمة العسكرية الإلزامية. وعلى هذه الخلفية، تأسّست عام 1972 "لجنة المبادرة الدرزية" التي صارت المنصة الأساسية لمعارضة السياسة الإسرائيلية داخل المجتمع الدرزي.
في 2003، اندلع نزاع بين دروز الكرمل وإسرائيل، إثر خطط حكومية لمصادرة أراض زراعية تعود لأبناء الطائفة الدرزية. ما أثار احتجاجات واسعة، دفعت أصحاب الأراضي إلى تأسيس "لجنة الدفاع عن الأرض والمسكن"، التي طالبت بتعويض عادل وفق مبدأ "الأرض مقابل الأرض". وفي محاولة لاحتواء الأزمة، تدخلت القيادة الدينية الدرزية الرسمية بدور الوسيط، دون دعم حقيقي لأصحاب الأراضي، مواصلة نهجها التقليدي القائم على الاستيعاب والتسوية.
تأسست في عام 2014 حركة "ارفض"، وهي حركة شبابية غير حزبية ترفض التجنيد الإجباري المفروض على الدروز، وتؤكد على الهوية العربية والانتماء الفلسطيني، وتطالب بالمساواة.
في هذا السياق، ظهرت حركات احتجاجية جديدة، منها حركة "الحرية للحضارة العربية" التي تأسست عام 2005، ورفعت شعارات قومية علمانية، مطالبة بإطلاق سراح الأسرى على رأسهم اللبناني الدرزي سمير القنطار، وإلغاء الخدمة العسكرية الإلزامية. وفي عام 2007، شكّلت أحداث قرية البقيعة نقطة تحوّل في علاقة الدروز بالدولة، عندما اقتحمت الشرطة القرية لاعتقال شبان متهمين بإحراق هوائي خلوي أقيم في مستوطنة مجاورة، ما أدى إلى مواجهات عنيفة استمرت يومين وأسفرت عن إصابات في صفوف الشرطة والأهالي. الأمر الذي صدم المجتمع الدرزي، الذي ظنّ أن خدمته في الجيش تحصنه من عنف الدولة.
ردا على هذه التراكمات، تأسست في عام 2014 حركة "ارفض"، وهي حركة شبابية غير حزبية ترفض التجنيد الإجباري المفروض على الدروز، وتؤكد على الهوية العربية والانتماء الفلسطيني، وتطالب بالمساواة.

في عام 1956، اعترفت إسرائيل بالدروز كطائفة دينية ثم قومية مستقلة، رغم أن الدروز كانوا منذ قرون يعتبرون جزءا من الإسلام. وفي الأعوام 1961–1962، أقامت الدولة محاكم دينية ومرجعية روحية خاصة بالطائفة، الأمر الذي وفر لها قنوات رسمية للرعاية والاحتواء. أما "وحدة الأقليات" فظلت خراج الإطار الرسمي للجيش، تحت إشراف هيئة الأركان العامة وباتصال دائم مع الشعبة السياسية في وزارة الخارجية، مع امتلاكها مهام استخبارية خاصة.
اتجهت السلطات الإسرائيلية إلى احتواء الحركات الاحتجاجية من خلال وسطاء من أبناء الطائفة الدرزية، ففي كانون الثاني/ يناير 1967، أنشأ حزب العمل – الذي كان الحزب الحاكم آنذاك – "رابطة الدروز" ، عبر مثقفين دروز مرتبطين بالدولة، طالبوا بحقوق الدروز، وفتح مؤسسات الدولة أمامهم، والعمل على تطوير قراهم، وتدريس تاريخ مشترك يجمع بين اليهود والدروز في المدارس الحكومية، كما دعت الحزب إلى فتح أبواب العضوية أمام الشباب الدروز.
اتجهت السلطات الإسرائيلية إلى احتواء الحركات الاحتجاجية من خلال وسطاء من أبناء الطائفة الدرزية، ففي كانون الثاني/ يناير 1967، أنشأ حزب العمل – الذي كان الحزب الحاكم آنذاك – "رابطة الدروز".
وفي عقد السبعينيات، فتح حزب العمل عضويته أمام الدروز وجميع الأقليات التي تخدم في القوات الأمنية. وعلى الجانب الآخر، كان الكفاح الوطني الفلسطيني يتطوّر جنبا إلى جنب مع اليسار اللبناني بقيادة كمال جنبلاط، سليل عائلة درزية بارزة في لبنان. ما أدى إلى تصاعد التوتر بين الدروز وإسرائيل، لاسيما بعد هجمات شنّها إسرائيليون على رجال دين دروز، في أعقاب عملية نفذها أعضاء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في نيسان/ أبريل 1974.
لاحظت السلطات الإسرائيلية تدهور العلاقات بين الدولة والطائفة الدرزية، فعمدت إلى تشكيل لجان لدراسة الوضع. وفي عام 1975، شرعت السلطات بتنفيذ توصيات هذه اللجان، التي تمثلت بـ "درزنة" جهاز التعليم وتضمنه الولاء لدولة إسرائيل، والثقافة اليهودية، والعلاقة الخاصة بين الدروز واليهود. وسط مباركة من قبل الزعماء الدينيون التقليديون للطائفة الدرزية. وكان الهدف الرئيسي من هذا البرنامج تعزيز الولاء للدولة لدى الجيل الشاب وترسيخ هوية طائفية منعزلة، ما أدى إلى تغريب المجتمع الدرزي عن محيطه العربي والإسلامي.
لم تؤدّ الخدمة العسكرية إلى دمج فعلي للطائفة الدرزية في المجتمع الإسرائيلي، وما زالوا يتعرضون إلى التمييز والإقصاء شأنهم شأن سائر الفلسطينيين في الداخل.
لم يُبدِ الزعماء الروحيون اعتراضا على استغلالهم سياسيا لضمان ولاء الطائفة الدرزية للدولة، حتى أن بعضهم ينظر إلى الخدمة العسكرية على أنها تأكيد لما يُسمى "تحالف الدم" وأخوة تاريخية بين الشعب اليهودي والطائفة الدرزية – باعتبارهما جماعتين مضطهدتين – يعود تاريخهما إلى ثلاثة آلاف عام، وتتماشى هذه الرواية مع الطرح الديني التقليدي للطائفة، القائل بأن الدروز منفصلون كليا عن الإسلام، وأن ديانتهم تفرض الولاء للحكومة الحاكمة. لتشكل هذه العقيدة إطارا يبرّر شبكة العلاقات الخاصة والتعاون بين القيادة السياسية والروحية للطائفة الدرزية والمؤسسة الإسرائيلية. وفي ظل هذه القيادة المرنة التي تعتبر الولاء للدولة مكونا جوهريا من العقيدة الدينية، أتيح للمؤسسة الإسرائيلية إنتاج قيادة تهادنية وفرض برامج تعليمية مسيّسة.
لم تؤدّ الخدمة العسكرية إلى دمج فعلي للطائفة الدرزية في المجتمع الإسرائيلي، وما زالوا يتعرضون إلى التمييز والإقصاء شأنهم شأن سائر الفلسطينيين في الداخل. ويعود ذلك إلى أن هذا الاندماج لا يتوقف على أداء الواجبات، بل يتعلّق بتعريف إسرائيل لنفسها كدولة يهودية. فالعِرق أو الانتماء القومي أو الديني هو ما يُحدد العلاقة بين المواطن والدولة.
في سياق حرب 1967، التي وضعت الجولان السوري، إلى جانب الضفة الغربية وقطاع غزة، تحت الاحتلال الإسرائيلي، أدركت السلطات الإسرائيلية ضرورة تكريس صورة الدروز كـأقلية وفية. وقد اقترح يغال ألون، أحد قادة حزب العمل، إنشاء دولة عازلة درزية بين إسرائيل وسوريا في منطقتي الجولان وحوران، تكون برعاية وتسليح الحكومة الإسرائيلية، لتكون بمثابة طليعة المواجهة مع الجبهة الشرقية العربية.
ومؤخرا، شنّت القوات الإسرائيلية عدة ضربات على سوريا، مستغلة الاشتباكات بين ميلشيات درزية مسلحة ومقاتلين من قبائل بدوية مدعومين من قوات النظام الجديد. وقد برّرت إسرائيل هذه الهجمات بذريعة "حماية الدروز". لكن سرعان ما ظهر الاتجاه الإسرائيلي المعهود لتقسيم سوريا وإنشاء منطقة درزية ذات حكم ذاتي في الجنوب. لمنع استقرار سوريا وإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق رؤية تبناها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ترى أن استمرار حالة عدم الاستقرار في الدول التي لا تربطها معاهدات سلام بإسرائيل، ضمانة لأمن الدولة.
إن تدخل إسرائيل في سوريا هو محاولة للموازنة بين ضغوطها الداخلية وأجندتها الإقليمية القائمة على عقيدة الحرب الدائمة.
تسارع إسرائيل إلى اللعب على وتر البعد الطائفي لخدمة مصالحها، وتسعى لاستمالة دروز سوريا من خلال حزم المساعدات التي بلغت نحو مليوني شيكل أي حوالي 540 ألف دولار، ناهيك عن سماح جيش الاحتلال بدخول الدروز السوريين إلى إسرائيل للعمل. كما عرض نتنياهو إرسال قوات لحماية الدروز في حي جرمانا بدمشق خلال التوترات الأخيرة هناك، لكن الدروز رفضوا هذا العرض.
ويرى مراقبون أن إسرائيل لن تغامر بمصالحها الاستراتيجية من أجل الدروز، فالدولة التي تحرم الدروز من الاعتراف الرمزي في قانون الدولة القومية، وتفشل في حمايتهم من الجريمة المنظمة، ليست من المرجّح أن تخوض حربا مفتوحة من أجلهم. إن تدخل إسرائيل في سوريا هو محاولة للموازنة بين ضغوطها الداخلية وأجندتها الإقليمية القائمة على عقيدة الحرب الدائمة. وفي ذلك، تكشف هشاشة "أخوّة" مزعومة بين اليهود والدروز، وتفضح تظاهر إسرائيل بأنها المدافع عن الأقليات في الشرق الأوسط.