في اقتصاد اللاشيء.. فضيلةُ مقاطعة التفاهة
4 سبتمبر 2025
في كل مرة نمنح فيها نقرة لوجه أو جسد يتعيّش على فُتات فضولنا، نضعُ لَبنة في قصر من هواء وعرش من خواء. هكذا تُشيَّد سطوةُ "مشاهير التفاهة". نقرات صغيرة، لكنها متواترة حتى تبدو قدْرا عظيما لهؤلاء. يُخرِجون من اللاشيء "حدثا"، ومن الفراغ "رأيا"، ومن العبث "قضية". ثم يطلبون منا أن نصفّق لأنهم يمضغون اللاشيء بمهارة ثم يتقيأونه على شكل محتوى.
ليست القضية ذوقا رفيعا أدعي امتلاكه أو استعلاء على الناس؛ بل إنّها مسألةُ قيمة لا ثمن: ما الذي يستحقّ أن نُعطيه من أعمارنا ليتربَّح بها ويكسب دون جهد أو عناء أو معنى؟ إنّ العمر، في زمن الشاشات، يُقاسُ بمعيار الانتباه. فإمّا أن نصرفه في ما يُنمّي الحسَّ والمعرفة، وإمّا أن نذره طُعما للخوارزميات التي لا تشبع.
يقال: "مشاهيرُ التفاهة" لا يقتطعون من أرزاقنا، فلماذا نقاطعهم؟ الحقيقة أنّ اقتصاد الانتباه أشدُّ جشعا من أسواق البورصة والعملات؛ فهو يقتات على وقتك، على يقظتك، على ذخيرتك اللغوية والوجدانية. كل دقيقة تُنزَع من موضعها الطبيعيّ (قراءة، مهارة، حوارٌ حقيقي) وتُلقى في بئر اللغو، تتحوّل إلى إعلان ممول، وإلى دعم لاقتصاد خاسر، وإلى دفعة جديدة من "محتوى" سيئ الصنعة، صاخب بقدر ما هو فارغ.
الحقيقة أنّ اقتصاد الانتباه أشدُّ جشعا من أسواق البورصة والعملات؛ فهو يقتات على وقتك، على يقظتك، على ذخيرتك اللغوية والوجدانية.
يدرك تجّار التفاهة هذه المعادلة: ضجّة قصيرة تكفي لإشعال خوارزمية أو لانفجار التفاعل. صورة مُستفِزّة، استعراض مبتذل للجسد، جملة مبتورة، معركة مصطنعة؛ ثم تتكفّلُ الآلةُ بالباقي. إنهم لا يحتاجون إلى حقيقة صلبة، أو واقع ذي معنى، بل إلى تفاعل مُكرَّر. وحين يتناسلُ التفاعل، يتوالدُ المحتوى على صورة أوهامه: أكثر فجاجة، وأقلّ معنى.
المقاطعة هنا ليست عقوبة نُنزلها بالآخرين، بل تربية نُزكي بها أنفسنا. أن نُعرِض عن اللغو لا لأنّنا عاجزون عن الردّ، بل لأنّ الرد نفسه يُشركنا في المسرحية ذاتها. ثمة فِعل تربويّ بطيء اسمه الصمتُ الفاعِل: ألا نُسلم خوارزمياتهم مادة اشتعالها، وألا نمنحهم رحِما تتكاثرُ فيه أفكارُهم البائسة.
لسنا ندعو إلى صوم ثقافيّ أو انقطاع عن مواقع التواصل يُغلق جميع النوافذ، بل إلى تمييز وتمايز: أن نعرف الفرق بين ضوضاء تُستهلَك بابتذال، ومعرفة تُثمِر فتنمو وتكبر. المقاطعة هنا ليست مجرد "إلغاء"، بل تحرير لمواردنا الداخلية: الزمن، الذوق، السكينة، واللغة.
تؤسّس التفاهة عالما مقلوبا: يُكافأ فيه الأدنى لأنّه الأعلى صوتا، ويُتَّهم فيه الرصين بالملل، ويُخنق فيه المعنى تحت ركام "الترند". ومع تراكم الجرعات، يصبح القبيح مألوفا، والمبتذل طبيعيّا، والركيك معيارا. هذه ليست مبالغات بل فواعل نفسية واجتماعية يعرفها كل من تأمل أثر التكرار: الشيء يتجمّل بكثرة المرور.
المقاطعة هنا ليست مجرد "إلغاء"، بل تحرير لمواردنا الداخلية: الزمن، الذوق، السكينة، واللغة.
لذلك فإنّ "الامتناع" ليس انسحابا من المجتمع، بل مقاومة لمفعول الاعتياد: أن نُعيد الحساسية إلى ذائقتنا؛ -وما أجمل أن تعود تلك الحساسية- أن نسترجع دهشة الإنسان الأول أمام جملة محكمة، وصورة صادقة، وفكرة مُمتحنة.
لا تُسمّهم: الأسماء بوق صاخب. حين نذكرهم نُطلق لهم دعاية مجانية. سمّ الظاهرةَ، لا صاحبها. عالج الفكرةَ، لا صورتها. اقطع سلسلة التفاعل: لا مشاهدة، لا تعليق، لا مشاركة. الخوارزمية لا تفرّق بين سبّ ومديح؛ كلاهما وقود. حوِّل المسار: بدل "التفريغ" عليهم، املأ فراغك بقراءة أو مهارة أو محاورة وجها لوجه. اطلب نصّا عميقا، أو علما مُحكما، أو فنّا نظيفا. اصنع البديل: لا ينهزم السخف بالشتيمة، بل بالمنافسة الجميلة.
أطلق مشروعا صغيرا في المعرفة أو الفنّ، ولو كان دورة قراءة مع أصدقائك، أو تدوينة أسبوعيّة في فكرة واحدة تُصاغ بإتقان. ربّ مزاجك: الذائقة تُدرّب. ابدأ بمقادير قليلة من الجمال المركّز: تلاوة للقرآن كلها شجن وخشوع، قصيدة مُصفّاة، فصل من كتاب راسخ، مقطع موسيقيّ نظيف. زد الجرعة تدريجيّا حتى يستردّ القلب براعته في التمييز.

لأنها تُفقِر اللغة، ومتى افتقرت اللغة افتقرت الأفكار. الكلمة المبتذلة لا تُسمّي العالم، بل تُضلّله. وحين تُفرَغ المصطلحات من معانيها العالية، يتعذّر علينا أن ننشد العدل ببلاغته، وأن ندافع عن الحرية بلسانها، وأن نحبّ بقدرة عباراتها على الوصف. التفاهة ليست بريئة: هي أفيون ناعم، يسكّن الوعي, يُرخّي عضلة النقد، ويجعلنا قابلين للانقياد بأسخف الإيماءات.
ثم إنّ التفاهة تُجرِّح الحسّ الأخلاقي: حين يُصوَّر الألم مادة للضحك، والمأساة خلفية لرقصة، يُعاد تشكيل ضابطتنا الداخلية. لا تعود المظالم تُحدث فينا الارتجاج المطلوب، فيرزح العالم المقلوب على عتبة من البلادة لا ينهض.
قد تبدو قراراتنا الفردية قطَرات في محيط، لكن الخوارزميات حسّاسة. إنّ الانصراف الجماعيّ الهادئ يُغيِّر خرائط التوصية، ويُسقط "الترند" المصطنع، ويضطرّ صانعي المحتوى لإعادة تعريف ما يعتبرونه "جاذبية". نحن لسنا قطيعا يساق؛ نحن ضابطو الإيقاع: نرفع ممن نرفع بقدر مستحق واحترام مكتسب، ونُسقِط من نُسقط بعدم الاكتراث باللامبالاة في موضعها.
نحنُ أبناء كلماتِنا. نكبرُ بقدر ما تكبرُ جملتنا في الداخل. مقاطعةُ "مشاهير التفاهة" ليست خصومة شخصية، بل ميثاق عيش: أن نصون أرواحنا من السخام، وأن نحرس لغتنا من الهزال، وأن نعيد للوقت هيبتَه، وللمعرفة مقامَها. ليس المطلوب أن نتحوّل إلى رهبان صمت. المطلوب أن نُحسن الإنفاق: نُنفق انتباهنا على ما يستحقّ أن يكبر فينا فيضيء.
مقاطعةُ "مشاهير التفاهة" ليست خصومة شخصية، بل ميثاق عيش: أن نصون أرواحنا من السخام، وأن نحرس لغتنا من الهزال، وأن نعيد للوقت هيبتَه، وللمعرفة مقامَها.
وحين يستوي هذا الميزان في البيت والمدرسة والشارع والمنصّة، سيبهت ضجيج العابرين، وسيعلو صوت المعنى، وستجد الأجيال في شاشاتها ما يعينها على أن تكون أكرم، وأعمق، وأجدر بالإنسان بحقيقته وكينونته.