الهيمنة عبر الخوارزميات: عسكرة التقنية وتطويع العمالة الفلسطينية
27 أغسطس 2025
اعتمد النظام الإسرائيلي منذ نشأته في خمسينيات القرن الماضي، على التكنولوجيا المتقدمة في تعزيز نظامه الأمني وزيادة إنتاجه المحلي، ورغم الولع الإسرائيلي بالمنافسة العالمية في القطاع التكنولوجي، فقد شهد عام 2024 انخفاضا ملحوظا في مؤشرات نشاط الأعمال التكنولوجية العالية في إسرائيل، فيما أظهر مؤشر الذكاء الاصطناعي العالمي الصادر عن مؤسسة "Tortoise Intelligence"، تراجع تصنيف إسرائيل في مجال الذكاء الاصطناعي من المرتبة الخامسة عام 2019، إلى المرتبة التاسعة عام 2024، من بين 62 دولة في العالم. مع هذا لا تزال إسرائيل من الدول الرائدة عالميا في مجال التكنولوجيا المتقدمة والأولى في الشرق الأوسط ودول شمال إفريقيا.
بينما يدور الجدل في العالم حول أخلاقيات استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي، تطرح إسرائيل نموذجا عمليا لكيفية عسكرة التقنية الحديثة داخل الأراضي الفلسطينية. إذ يرتبط المشهد التكنولوجي الإسرائيلي ارتباطا وثيقا بالجيش، لاسيما مع وحدة "8200"، التابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية والمتخصصة في جمع المعلومات عبر الإشارات الإلكترونية، وأمواج الراديو والهواتف المحمولة. تشمل مهام الوحدة تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي لتحديد وتعقب الأهداف المعادية، ومن أبرزها نموذجي "جوسبل" و"لافندر"، يعتمد الأول على الاستدلال الاحتمالي، حيث يحدد المباني والمنشآت التي يتنبأ النموذج بتواجد مقاتلين بداخلها كأهداف بناء على خصائص مشتركة مع أعداء تم تحديدهم مسبقا في قواعد البيانات التي تم تدريب النموذج عليها، فيما يقوم Lavender"" بتحديد الأشخاص ووضعهم على قائمة الاغتيال. وصفت هذه النماذج من قبل ضباط سابقين في الوحدة بـ"مصانع اغتيالات جماعية"، وهي تستخدم حاليا في الحرب على غزة إلى جانب نماذج ذكاء اصطناعي أخرى تحتمل نسب خطأ مرتفعة.
يرتبط المشهد التكنولوجي الإسرائيلي ارتباطا وثيقا بالجيش، لاسيما مع وحدة "8200"، التابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية والمتخصصة في جمع المعلومات.
وفي تجربة تمثل الأولى من نوعها لاستخدام النماذج اللغوية في الاستخبارات العسكرية، تعكف الوحدة "8200" على تطوير نموذج لغوي شبيه بـ "Chat GPT"، من خلال تدريبه على 100 مليار كلمة عربية جمعتها من المراقبة المكثفة للفلسطينيين. استعانت الوحدة بخبراء الذكاء الاصطناعي من شركات Google" ,"Meta" ,"Microsoft""، لتطوير النموذج التأسيسي لمشروعها، بعد رفض شركة "Open AI" طلبا للوحدة بمنحها إذنا للوصول إلى النموذج الخاص بها. وفي تقرير للشركة الأمريكية، كشفت عن استخدام شركة ستويك "Stoic" الإسرائيلية، أدوات "Open AI" في العديد من الأنشطة المضللة، بغرض التأثير على الرأي العام العالمي.
80% من أصل 2300 فرد تلقوا تدريباتهم في وكالات الاستخبارات الإسرائيلية، أسسوا شركات للأمن السيبراني.
تجهّز الوحدة مجنديها بالمهارات التقنية اللازمة للانضمام إلى أي من الشركات التكنولوجية الكبرى أو حتى تأسيس شركاتهم الخاصة، إذ أظهرت دراسة لصحيفة "هآرتس" أن 80% من أصل 2300 فرد تلقوا تدريباتهم في وكالات الاستخبارات الإسرائيلية، أسسوا شركات للأمن السيبراني، ومن أشهر الشركات الإسرائيلية التي أسست على يد خريجي الوحدة "8200"، شركة "NSO Group" التي طورت برنامج التجسس الشهير بيغاسوس، وهو برنامج اختراق عن بعد يمكنه السيطرة على الهاتف المستهدف والوصول إلى البيانات والمايكروفون والكاميرا، دون الحاجة لأي تفاعل من قبل الضحية.
وفقا لبيانات مركز الإحصاء الإسرائيلي، يساهم قطاع التكنولجيا الفائقة بـ 20% من الناتج المحلي الإجمالي لإسرائيل، ويمثل 53% من الصادرات بما قيمته 73.5 مليار دولار، فيما بلغت نسبة الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا 9.7 مليارات في 2024، 42% منها خصصت لصالح شركات الأمن السيبراني، بحسب معهد الأبحاث والسياسات "Rise Israel". ويوجد في إسرائيل 9200 شركة تكنولوجية عالية، من بينها 600 شركة جديدة تأسست في عام 2023، وهو عدد منخفض بالنسبة للسنوات السابقة.
ورغم ترنح القطاع التكنولوجي تحت وطأة الإصلاحات القضائية والحرب، إلا أنه القطاع الأكثر نموا حتى في ظل الحرب، التي غالبا ما تحوّل لحقل تجارب واختبارات للمنتجات السيبرانية والعسكرية التكنولوجية ولأنظمة الرصد والتنبؤ. وفي إطار ذلك، وصف أحد كبار المستثمرين الإسرائيليين الحرب "بالحدث التكنولوجي الضخم"، خلال مؤتمر نظمته جمعية صناعات التكنولوجيا المتقدمة في إسرائيل. كما سجل قطاع التكنولوجيا المساهمة الأكبر في مدفوعات ضريبة الدخل، فخلال السنوات الخمس الماضية دفع موظفو التكنولوجيا المتقدمة الذين يمثلون 10% من القوى العاملة الإسرائيلية، قرابة 100 مليار شيكل. وبحسب تقرير ليؤمي تيك "Leumi Tech"، زاد عدد شركات اليونيكورن في السوق الإسرائيلي بواقع ست شركات، خلال الربع الأخير من عام 2024.

من ناحية أخرى، يشكل عدم وجود نمو في عدد العاملين في قطاع التكنولوجيا من الجوانب القاتمة والمقلقة للحكومة الإسرائيلية، وتنذر بنقص الإبداع والتجديد في إنشاء الشركات الناشئة، ونظرا لسرعة واطراد النمو التكنولوجي عانت الدولة من نقص اليد العاملة في مجال القطاع التكنولوجي لفترات طويلة، لاسيما في ظلّ حالة عدم الاستقرار السياسي، والحرب التي ساهمت في زيادة مخاوف المستثمرين واليد العاملة الأجنبية، إذ يواجه عجزا في العمالة يصل إلى نحو 10 آلاف متخصص في قطاع التكنولوجيا والبرمجة. ومن أحد الأسباب التي عمقت أزمة العمالة، ترك نحو 28 ألف عامل في مجال التكنولوجيا الفائقة الإسرائيلية وظائفهم للانضمام إلى الجيش بصفة جنود احتياط، 60% منهم من عمال البحث والتطوير.
وفي إطار مساعي الحكومة الإسرائيلية لمواجهة العجز بحسب المزاعم المعلنة، سمح الاحتلال بتشغيل تجريبي لـ 500 فلسطيني في شركات التكنولوجيا المتقدمة الإسرائيلية، خلال السنوات الثلاث المقبلة. تنتهي الفترة التجريبية لتشغيل الفلسطينيين بفحص معمق من قبل فريق وزاري، يبحث فعالية دمج العمال الفلسطينيين في الصناعة الإسرائيلية، وتأثيره على دمج العمال الإسرائيليين في الصناعة، للحصول على موافقة بالتمديد أو الإلغاء أو زيادة الحصة.
سعت إسرائيل إلى تعزيز التبيعية الاقتصادية للمجتمع الفلسطيني، عبر السيطرة على الموارد الطبيعية والمالية والاقتصادية، وقطع العلاقات التجارية الفلسطينية مع الخارج، فضلا عن تحويل المجتمع الفلسطيني إلى سوق استهلاكية للبضائع الإسرائيلية.
تفتح الأرقام والإحصاءات السابقة تساؤلات حول حقيقة ومصداقية الأهداف والمزاعم الإسرائيلية لتوظيف المئات من الفلسطينيين، بما يسد 5% فقط من عجز العمالة في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلية المتقدمة، فيما تعكس تطبيقا لنظرية الاستعمار الرقمي التي تشكل امتدادا للاستعمار التقليدي، باستخدام الوسائل المعاصرة للتكنولوجيا، لتعزيز هيمنتها السياسية والاقتصادية على المجتمع الفلسطيني، وحصار المساحات الرقمية الفلسطينية التكنولوجية.
سعت إسرائيل إلى تعزيز التبيعية الاقتصادية للمجتمع الفلسطيني، عبر السيطرة على الموارد الطبيعية والمالية والاقتصادية، وقطع العلاقات التجارية الفلسطينية مع الخارج، فضلا عن تحويل المجتمع الفلسطيني إلى سوق استهلاكية للبضائع الإسرائيلية، كما ضيّقت على الفلسطينيين اقصاديا، مجبرة نحو 120 ألف فلسطيني على التخلي عن العمل في أراضيهم أو فتح مشاريع اقتصادية لحسابهم الخاص، والبحث عن فرص عمل في إسرائيل، ضمن مسار السلام الاقتصادي، القائم على تقديم تسهيلات اقتصادية ملموسة، من خلال زيادة عدد العاملين في إسرائيل وتقديم دعم مالي للسلطة الفلسطينية.
تلجأ إسرائيل إلى السلام الاقتصادي عند تعذر السلام السياسي كمقدمة للتنكر لكليهما، إذ يمنح الفسطينيين اسقلالية اقتصادية وهمية، بما يضمن ممارسة السياسة الاقتصادية النيوليبرالية لإسرائيل.
تلجأ إسرائيل إلى السلام الاقتصادي عند تعذر السلام السياسي كمقدمة للتنكر لكليهما، إذ يمنح الفسطينيين اسقلالية اقتصادية وهمية، بما يضمن ممارسة السياسة الاقتصادية النيوليبرالية لإسرائيل، واستغلال الموارد والكفاءات الفلسطينية، مع الحفاظ على سياسة الاحتلال القائمة على طرد الفلسطيني ومحو وجوده.

تشير إحصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني للعام 2024، إلى أن معدل البطالة في قطاع تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات بلغ 25.4%، بواقع 22 ألف خريج يحملون شهادات تكنولوجية ولا يعملون في المجال، فيما تظهر بيانات وزارة التربية والتعليم الفلسطينية أن 2270 خريج يحمل شهادة متعلقة بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات يدخلون السوق سنويا. ويعمل ما بين 600 إلى 1000 عامل فلطسطيني في مجال البرمجيات في الصناعات الإسرائيلية التكنولوجية عن بعد، عبر شركات تكنولوجية فلسطينية تخدم الشركات الإسرائيلية والدولية، بأجور منخفضة تصل إلى 2000 دولار، من بينها شركة "ASAL Tech"، التي تعمل مع مراكز التطوير التابعة لشركة Nvidia"" و"Intel" في إسرائيل، كما تخدم الشركات الناشئة الإسرائيلية مثل شركة Kaito"".
يعي الاحتلال قدرة الكفاءات الفلسطينية في مجال التكنولجيا على خلق معادلات جديدة وفارقة على ساحة الصراع والنضال الفلسطيني، وهو ما انعكس جليا في قدرات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة خلال الحرب.
تحاصر إسرائيلي الكفاءات التكنولوجية الفلسطينية بين الأجور المنخفضة للعمل في فلسطين، أو العمل في إسرائيل مقابل أجر مضاف، ومن الممكن أن تمثل الهجرة سبيلا للتغلب على الواقع القسري واكتساب مهارات مفتوحة غير مقيدة عبر العمل مع شركات التكنولوجيا المتقدمة في الخارج، وبناء مشاريع وشركات تكنولوجية تعود بالنفع على المجتمع والاقتصاد الفلسطيني. ويعي الاحتلال قدرة الكفاءات الفلسطينية في مجال التكنولجيا على خلق معادلات جديدة وفارقة على ساحة الصراع والنضال الفلسطيني، وهو ما انعكس جليا في قدرات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة خلال الحرب، من صناعة الأسلحة والطائرات المسيرة، وبناء أنظمة اتصالات داخلية، وحتى على صعيد جمع البيانات وتوظيفها لخدمة النضال الفلسطيني.