حارة الياسمين: ذاكرة العطر والبارود
25 أغسطس 2025
من مشارف حارة الياسمينة، وظلال البيوت الدافئة التي أرخت خيوطها الهادئة على أرض معبّدة بالإسمنت، والأبواب المتقابلة في ذات الزقاق تبدو كأنها أروقة بيت واحد كبير، بيت العائلة. هناك حيث يتدلى العطر على الأبواب والجدران، ممر معتم يقود العابر إلى درج قديم يفضي إلى بوابة مقوّسة، تعانقها نباتات متسللة وأغصان صفراء يابسة. وعلى الجدار المتهالك بقايا ملصق قديم يحمل صورة شهيد.
من شيد تلك البيوت العتيقة التي ما زالت تحتفظ ببهائها، ومن غرس الياسمين الذي يطوق الأبواب والجدران صاعدا نحو الشرفات في الطوابق العلوية؟ كان ذلك أحد الأجداد الأوائل، تاركا أثره في الحجر والذاكرة والهواء المعطر بالزهر.

في الركن الجنوبي الغربي من البلدة القديمة في نابلس تتفتح حارة الياسمينة، التي يصفها أهلها بـ"دمشق الصغرى"، ويعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد. كل من يمر بأزقتها الضيقة وشوارعها المتشابكة يرى فيها صورة حيّة للأحياء الشامية العريقة، إذ تحتفظ بطابع معماري موروث عن حضارات متعاقبة تركت بصمتها في الحجر والذاكرة.
كانت شجرة الياسمين تُزرع قديما في بيوت حارة الياسمينة حتى غدت جزءا من روح المكان. ويؤكد الأهالي أنّ رائحة الياسمين تفوح بمجرد الدخول إلى الحارة، وهو ما منحها اسمها. كما أن الأقواس والقناطر العتيقة التي تعانق أزقتها، إلى جانب الأسواق المغلقة وأماكن الصلاة المشابهة لجوامع دمشق، جعلت الكثيرين يطلقون عليها أيضا اسم "دمشق الصغرى".
كل من يمر بأزقتها الضيقة وشوارعها المتشابكة يرى فيها صورة حيّة للأحياء الشامية العريقة، إذ تحتفظ بطابع معماري موروث عن حضارات متعاقبة تركت بصمتها في الحجر والذاكرة.
تحتضن حارة الياسمينة في نابلس إرثا معماريا وروحيا ضاربا في التاريخ، فهي تضم مسجد الساطون، أقدم مسجد شُيّد بعد الفتح الإسلامي، كما تضم حارة السمرة التي تنتمي إليها الطائفة الدينية الأصغر في العالم، إلى جانب مسجد الخضراء الذي يُروى أن نبي الله يعقوب عليه السلام حزن فيه على ابنه يوسف. وتشكل الحمّامات العامة جزءا أصيلا من ملامح الحارة، ومنها حمام "السمرة" الذي يعود بناؤه إلى زمن تأسيس البلدة القديمة قبل خمسة آلاف عام، وقد ظل يتجدد عبر المراحل التاريخية اللاحقة، إلى جانب الصبّانات (معامل الصابون) والقصور العريقة لعائلات نافذة مثل قصور آل عبد الهادي. وفوق هذا المزيج من العمارة والتاريخ والبيئة الاجتماعية، برز سوق الياسمينة كركيزة اقتصادية للحارة ومتنفس لأهلها والمتسوقين الوافدين إليها.

يؤكد تاريخ البلدة القديمة في نابلس، ولا سيما حارة الياسمينة، أن المقاومة فيها كانت فعلا متجذرا منذ بداياتها الأولى، فقد شاركت عام 1936 في أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى، ثم عادت لتسجل حضورها عام 1967 حين اتخذ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من حوش العطعوط مقرا له وللمقاومة. وفي المكان نفسه اندلعت معركة "عرين الأسود" الأخيرة، حين استهدفت قوات الاحتلال القائد وديع الحوح واغتالته بطائرة مسيّرة فجّرت منزله، بعدما عجزت عن اقتحامه.
يؤكد تاريخ البلدة القديمة في نابلس، ولا سيما حارة الياسمينة، أن المقاومة فيها كانت فعلا متجذرا منذ بداياتها الأولى.
وخلال انتفاضة الحجارة عام 1987، برزت في الحارة مجموعات "النسر الأحمر"، الجناح العسكري لـلجبهة الشعبية، و"الفهد الأسود"، الجناح المسلح لحركة فتح، واتخذت من قصر حسين عبد الهادي التاريخي مركزا عُرف باسم "المحكمة"، حيث جرت محاكمة المتخابرين مع الاحتلال، في مشهد جسّد فصلا مهما من فصول المقاومة في مدينة نابلس. هذه الروح الثورية امتدت لاحقا إلى انتفاضة الأقصى عام 2000، حين احتضنت الحارة مقاومين من مختلف المناطق، لتصبح فيما بعد معقلا لــ"عرين الأسود".
داخل أزقة حارة الياسمينة ومنازلها المتلاصقة في البلدة القديمة بنابلس، وجدت المقاومة الفلسطينية ملاذا آمنا على امتداد سنوات النضال، حيث احتضنت العشرات من المقاومين الذين أرهقوا قوات الاحتلال وأجهزته الاستخباراتية بعمليات نوعية أربكت حساباته. وقد شكّلت الحارة حضنا دافئا للمقاومين، وحصنا منيعا عصيا على الاقتحام. بسبب جغرافيتها المتشابكة وضيق شوارعها وتلاصق مبانيها. ومن هذا التحصين استمد المقاومون خبرتهم، فمدّوا الشوادر لعرقلة الطائرات المسيّرة، وزرعوا الكاميرات لمراقبة التحركات المشبوهة.
شكّلت الحارة حضنا دافئا للمقاومين، وحصنا منيعا عصيا على الاقتحام. بسبب جغرافيتها المتشابكة وضيق شوارعها وتلاصق مبانيها.
هنا، في حارة الياسمينة كما في سائر أزقة البلدة القديمة بنابلس، تفوح رائحة العطر والبارود وتتكثف ملامحها على الجدران؛ جداريات وملصقات وصور الشهداء تروي الحكاية وتؤكد الحضور، وتبعث الأمل في نفوس جيل جديد من الشباب، لتبقى الحارة شاهدا حيا على تاريخ لا ينطفئ، وحاضر يتجدد، ومستقبل يواصل كتابة فصوله بالمقاومة.
إنها درة نابلس وحافظة أسرارها وأسرار أهلها الطيبين، الذين ما زالوا يسقون بدمهم شتلات الياسمين لتبقى متسلقة على أبواب البيوت، حافظة لذاكرة المكان التي تبدأ بعبق الزهر وتنتهي بحكاية مقاومة لا تنطفئ.