عبّاس السيّد.. وطنٌ في رجل وتاريخ في أسير
19 أغسطس 2025
حين دوّت أصداء عملية فندق "بارك" في نتانيا عام 2002، لم تكن مجرد خبر عابر في صحف الاحتلال، بل زلزالا هزّ أركان كيانه وأربك حساباته. خلف ذلك الحدث المفصلي وقف عباس السيّد، المهندس الذي جمع بين العقل المدبّر والإرادة الصلبة. ومنذ تلك اللحظة، غدا السيّد أيقونة تتجاوز حدود المكان والزمان، ورمزا للقدرة على إيلام العدو في ذروة تغوّله.
حكم الاحتلال على السيّد بالسجن 36 مؤبدا و200 عام، وعليه أن يعيش 3764 عاما كي يقضي محكوميته، وما كان ذلك إلا اعترافا صريحا من دولة هشّة ترتعش أمام اسمه، وترى فيه شبحا يلاحقها ما دامت قائمة. فكيف لاحتلال يدّعي القوة أن يحكم على رجل واحد بما يتجاوز عمر التاريخ، إلا لأنه أدرك أنّ حضوره أقوى من جدران السجون، وأنّ فكره أبقى من زمنه؟

في العام 1967، حين كانت إسرائيل تحتفل بتثبيت أقدامها كدولة بعد احتلال ما تبقى من فلسطين، وُلد في طولكرم طفل لم تدرك تلك الدولة الطارئة أنّه سيغدو شبحها الذي يلاحقها حتى زوالها. ذلك الطفل كان عبّاس السيّد. ووسط أجواء الهزيمة العربية الثقيلة، كان ينمو داخله جيش من الإيمان والإصرار.
كبر عبّاس، ودرس الهندسة الميكانيكية في جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، لكنّ القاعات لم تحصر طموحه. هناك لمع نجمه كقائد طلابي، فانتُخب رئيسا للجمعية العلمية الطلابية لدورتين، وأسهم في تأسيس نادي "الرأي والرأي الآخر". ومن هنا انتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، فصار اسمه معروفا، ما دفع المخابرات الأردنية إلى سحب جواز سفره وترحيله إلى الضفة الغربية.
حين كانت إسرائيل تحتفل بتثبيت أقدامها كدولة بعد احتلال ما تبقى من فلسطين، وُلد في طولكرم طفل لم تدرك تلك الدولة الطارئة أنّه سيغدو شبحها الذي يلاحقها حتى زوالها.
في وطنه عاد أكثر التصاقا بالناس وقضاياهم، فالتحق بحركة حماس وتولّى مسؤولية الملف الطلابي، كما شارك في نقابة المهندسين، وعمل في شركة "الأنترميد" لإصلاح الأجهزة الطبية، التي ابتعثته لاحقا إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسة متخصصة في هذا المجال. هناك، في بلاد بعيدة، جمع بين العلم والتجربة، لكنه ظل يحمل همّ وطنه، فعاد بعد عام ليجد فلسطين قد اشتعلت أكثر.
كان العام 1992 محطة مفصلية في تاريخ المقاومة الفلسطينية؛ إذ شرعت إسرائيل في ترحيل 415 من قادة وكوادر حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" إلى مرج الزهور في جنوب لبنان، في محاولة يائسة لاقتلاع جذور الحركات الإسلامية من الضفة الغربية وقطع الطريق أمام أي مقاومة مستقبلية. لم يكن اسم السيّد قد ظهر بعد في سجلات الخطر الإسرائيلي. لكن الفراغ الذي أحدثه غياب القادة دفعه لتحمل المسؤولية، فبدأ يتحرك بخطوات حذرة بين مدن الضفة الغربية، حليق اللحية، أنيق المظهر، طويل القامة، حتى شبّه أحد المحققين الإسرائيليين هيئته بمغني الروك الأميركي إلفيس بريسلي. خلف هذا المظهر الأنيق، كان عبّاس يخفي عالما كاملا من التنظيم والعمل السري، يمهّد لمراحل جديدة في مسيرة المقاومة.

خلال تلك الفترة، شهد عباس السيّد اعتقاله الأول في 21 يونيو/حزيران 1993، ولم يكن قد مضى على زواجه من إخلاص الصويص سوى شهرين فقط. كان هذا الاعتقال - الذي استمر 11 شهرا - نقطة التحول التي بدأ الاحتلال يولي فيها الانتباه لنشاطه الحركي. جرى التحقيق معه على خلفية الاشتباه بتورطه في تشكيل "كتائب عبد الله عزّام".
وفي 1997، رزق السيّد بطفلته البكر مودة، وبعد ثمانية أيام فقط من ولادتها اعتقلته أجهزة السلطة ومكث في سجن طولكرم المركزي، المعروف آنذاك باسم "المسلخ" لقساوة التحقيق فيه، وعقب الإفراج عنه رزق بنجله عبد الله الذي لم يحظ برؤية والده دون أن تفصلهما قضبان الأسر. ومع ذلك، لم يترك عباس المسافة تضعف رابط الأبوة؛ فقد كان يجمع قصاصات الورق المأخوذة من الجرائد، تحمل صور القطط والحيوانات الأليفة، ليرسلها إلى ولده.
لم يترك عباس المسافة تضعف رابط الأبوة؛ فقد كان يجمع قصاصات الورق المأخوذة من الجرائد، تحمل صور القطط والحيوانات الأليفة، ليرسلها إلى ولده.
عند خروجه، كانت الضفة الغربية تشهد انتعاشا في العمل التنظيمي لحركة "حماس" بعد عودة المبعدين من مرج الزهور، وانتدب عباس ليكون ناطقا إعلاميا للحركة. لكن سرعان ما اعتقل مجددا في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1994. وجّهت إليه تهم عدة، شملت التمويل، التنظيم، عضوية جهاز عسكري، التسليح، والمسؤولية عن نشاطات "حماس". وخضع لتحقيق قاس للغاية، لكن لم يُخرج منه الاحتلال شيئا، فأُحيل بعد ذلك إلى الاعتقال الإداري، ومكث في السجن 19 شهرا. طوال هذه الفترة، لم يعترف عباس بأي شيء، "حتى باسمه"، كما تقول زوجته إخلاص.
كانت زنزانات السجن شاهدة على فكره وتجربته؛ فقد ترك عباس على الجدران رسائل وعبارات تُلهم الأسرى، مثل: "الإنكار أقرب الطرق إلى الدار، والاعتراف خيانة لله والوطن والمبدأ الكريم"، و"ألم الشبح يزول، وقبح المحقق يختفي، لكن ألم الاعتراف يبقى". وفي إحدى رسائله لزوجته، قال: "كانت أيام التحقيق جميلة جدا، حافلة بالمغامرات، شعرت فيها بلحظات لم أتذوقها من قبل. كنت أكتشف قوّة منبعها الاعتصام بحبل الله، أقوى من قوة المحققين أنفسهم. تجربة غنية، تزيد الإنسان إصرارا على المضي قدما في طريق الجنة، وتكشف عن معادن الرجال. لقد صارحوني بتخوّفهم من المدّ الإسلامي، وافتقارهم للثقة في استمرار دولتهم، وكنت أعاملهم معاملة الندّ، حتى أصبحوا بعد فترة من التحقيق ضعافا مهزومين، بفضل الله وقوته."
"كانت أيام التحقيق جميلة جدا، حافلة بالمغامرات، شعرت فيها بلحظات لم أتذوقها من قبل. كنت أكتشف قوّة منبعها الاعتصام بحبل الله، أقوى من قوة المحققين أنفسهم".
حُكم على عباس السيّد بالسجن 35 مؤبداً و200 عام إضافية، لكنه حوّل السجن من فضاء مظلم إلى ساحة ابتكار وصمود. إذ أطلق مبادرة "النطف المحررة" التي مكنت الأسرى من إنجاب عشرات الأطفال، كما ابتكر "الغرفة النموذجية" لإعداد القيادات داخل المعتقل عبر برامج تعليمية وتدريبية شملت السياسة والإدارة والفقه والأمن. وخلال سنوات اعتقاله، نال درجة الماجستير وتولى رئاسة الهيئة العليا لأسرى حماس.
رغم التضييق والعزل الطويل ومحاولة اغتياله عام 2012، واصل السيّد مواجهة إدارة السجون بالاعتراض والإضراب، حتى نجح عام 2015 في إنهاء عزله عبر إضراب مفتوح عن الطعام. ويظل اسمه حاضرا في قائمة الأسرى الذين ترفض إسرائيل الإفراج عنهم، كما حدث في صفقة وفاء الأحرار عام 2011.

اندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000، وكان عباس السيّد حينها يشغل منصب قائد حركة "حماس" في محافظة طولكرم وممثلها في شمال الضفة الغربية، وفي الوقت ذاته قاد شبكة واسعة من العمل العسكري في طولكرم والمناطق المحيطة بها، في الخفاء وبعيدا عن أعين الناس.
أعادت أجهزة السلطة اعتقاله عام 2001، بينما كان مطلوبا لدى الاحتلال، لكنه فرّ من السجن بعد أسبوعين، ليصبح مطاردا لدى السلطة أيضا. وفي فبراير/شباط 2001، ظهر عباس في مهرجان ليعلن عن "العهدة العشرية". متحديا بذلك تصريحات رئيس حكومة الاحتلال آنذاك، أريئيل شارون، الذي أعلن أنه سيعمل على إنهاء الانتفاضة خلال مئة يوم.
نُسِب إلى عباس وخليته عدة عمليات استشهادية، أبرزها عملية فندق "بارك" في مدينة نتانيا أواخر مارس/آذار 2002، والتي تزامنت مع انعقاد القمة العربية في بيروت. نفذ العملية الاستشهادي عبد الباسط عودة باستخدام قنابل يدوية وتفجير نفسه، وأسفرت عن مقتل 36 إسرائيليا وإصابة نحو 190 آخرين بجراح.
منذ نشأتها و"إسرائيل" تعيش على الخوف، وكلما حاولت أن تطمئن إلى بقاء مصطنع، باغتها عباس ورفقائه، لتتجدد رعشتها تحت ظلهم.
أما العملية الثانية فكانت في مجمع "كنيون هاشرون" التجاري الواقع على شارع هيرتزل في مدينة نتانيا المحتلة عام 1948، وأسفرت عن مقتل ثمانية إسرائيليين وإصابة أكثر من مائة آخرين.
على إثر هذه العمليات، وضعت إسرائيل قائمة المطلوب اغتيالهم، وكان عباس السيّد من ضمنها، ليصبح رمزا للرعب في أعين العدو ومهندسا للعمليات التي أشعلت الانتفاضة الثانية.
شددت قوات الاحتلال الإسرائيلي ملاحقتها لعباس السيّد، وشنّت ضده محاولات عدّة للاعتقال والاغتيال. وفي مطلع مايو/أيار 2002، داهم الجيش منزله واعتقل زوجته بهدف الضغط عليه لتسليم نفسه، لا سيما بعد أن ظل مطاردا لنحو ثمانية أشهر.
وفي الثامن من مايو/أيار، اعتقل عباس بعد تطويق مخيم طولكرم بالطائرات، وفرض طوق أمني محكم لقوات الاحتلال حول المخيم، حتى وصلت إلى المنزل الذي كان متواجدا فيه.
منذ نشأتها و"إسرائيل" تعيش على الخوف، وكلما حاولت أن تطمئن إلى بقاء مصطنع، باغتها عباس ورفقائه، لتتجدد رعشتها تحت ظلهم. ستزول تلك الدولة كما زالت قبلها إمبراطوريات وكيانات عابرة، لكن عبّاس سيظلّ خالدا في عقول وقلوب الأحرار، شاهدا على أن الحرية لا تُسجن، وأن الأوطان تُحيا برجال يتجاوزون أعمارهم لتصير قصصهم أبديّة.