شوقي وأشواق الحرية .. قصة قصيرة
14 أغسطس 2025
انهالت أخبار القلق والتوتّر على رأس أبيه، بعد مهرجان العودة وبعيد غروب شمس ذلك اليوم، توالت أخبار مريبة عن شوقي مفادها أنّه يريد تجاوز الحدود، وتُوّجت بوصيته التي وجدتها أمّه تحت مخدّته، طفل في ربيعه الثاني عشر يكتب هذه الوصية:
"أبي العزيز الغالي، إمّي الحبيبة الحنونة العظيمة،
أرجو منكما أن تسامحوني إن أصابني مكروه، هو في الحقيقة ليس مكروها وهو أقصى ما أتمنّى أن يكتبني الله من الشهداء الخالدين.
أبي وأمّي العزيزين، لم يكن أمامي إلا هذا الطريق العظيم، طريق الحرية والتحرير، طريق "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، أنتم تجرّعتم من هذا العدوّ اللئيم مرارة التهجير وحرمانكم من بلادنا فلسطين وعشتم حياة المخيّم واللجوء، كافحتم وثابرتم وكان لكم ولد أسميتموه شوقي والذي ملأتم قلبه شوقا لفلسطين، لن أسمح لهؤلاء أن يكرّروا مأساتكم فيّ مرّة أخرى سأنتقم لكم ولفلسطين، هؤلاء حرمونا ويواصلون حرماننا من بلادنا، يتربّصون بنا الدوائر ويحيطوننا بشرورهم من كل جانب، ليس لظلمهم وطغيانهم إلا بأسنا الشديد، وقد قرّرت أن أذيقهم شيئا من بأسنا بإذن الله فإمّا حياة تسركم وتسر الصديق وإمّا ممات يكيدهم ويزرع الخوف والهلع في قلوبهم.
وإلى الملتقى في الفردوس الأعلى بإذن الله أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه".
لم يكن أمامي إلا هذا الطريق العظيم، طريق الحرية والتحرير، طريق "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم".
ولم يترك أبوه ومن معه من المقرّبين جهة رسميّة ألا واتصلوا بها كي يعيدوا لهم ولدهم، فعوده ما زال طريّا وما زال طفلا ولن يرحم سنّه أولئك الأوغاد المتربصين على حدود غزّة، اجتاحتهم الهواجس وملأت سماء قلوبهم صور الطفل الشهيد المضرّج بدمائه، رصاص المجرمين وهو ينهمر على جسده دون أدنى رحمة، وقد يحتجزون جثمانه وهو الأغلب كما يفعلون مع الأسرى الذين يستشهدون داخل السجون، ساعات سارت بقسوة وبطئ شديدين، وكانت التخيلات المرعبة كقطع الليل المظلم تتناوشهم من كلّ جانب.
كانت خطة شوقي ورفيقه أن يقصّوا الاسلاك الشائكة ويقطعوا حديدها بمنشار أحضروه معهم مع مقصّ أسلاك، اجتازوا رهبة المكان في ظلل الظلام الأولى لليل غاب فيه قمره، كانت الأسلاك كثيفة ولم تقوَ سواعدهم على قصّها، وضعوا منشار الحديد على إحداها فانطلقت صفّارات الإنذار واشتعلت كشافات أحالت الليل إلى نهار، لم تقو عيونهم الصغيرة على أن تبحلق فترى المكان جيّدا فأطلقوا سيقانهم للريح بشكل عفوي معلنين بذلك فشل المحاولة وأن الأمر ليس كما تصوّرته عقولهم البريئة.
وصل شوقي بيته والساعة تعلن انتصاف الليل، كانت ثلّة من الجيران والأقارب بانتظاره، ألقى جسده النحيل في حضن أبيه، التقفه بقوّة ودخل به البيت سلّمه لحضن أمّه ثم أحكم إغلاق الباب.
لم تقو عيونهم الصغيرة على أن تبحلق فترى المكان جيّدا فأطلقوا سيقانهم للريح بشكل عفوي معلنين بذلك فشل المحاولة وأن الأمر ليس كما تصوّرته عقولهم البريئة.
كانت في القلوب نار تكاد تحرق كل شيء حولها، ما أن رأوه حي يتنفّس بين أيديهم إلا وتحولت بردا وسلاما، أشار بلغة جسده أن يوحي لمن حوله تجنّب اللوم أو حتى السؤال، حاول رسم ابتسامة جميلة على محيّاه أوصلت إلى شوقي دفئا وطمأنينة، التقط أنفاسه، تناول عشاءه بصعوبة وبطئ ثم أخلد إلى نومه، واضح أن التعب الجسدي والنفسي قد أصاب منه إصابة بليغة ومن ثم ألقى به في بحر النوم ليغرق فيه بسرعة كبيرة.
في اليوم التالي جلس معه أبوه على انفراد، فتح له قلبه وناقشه بهدوء، ما الذي كنت فاعله بالأمس يا شوقي؟
كنا حسب الخطّة سندخل داخل المعسكر، سننقض على جندي الحراسة نقتله ونخطف سلاحه ثم ندخل لنقتل مزيدا من الجنود.
وهل تدربتم على استخدام السلاح.
لا ولكن المسألة لا تحتاج الى تدريب.
دخلنا على اليوتيوب وشاهدنا كثير من الأفلام.
وهل هذا كافي لمواجهة جنود مدرّبين أعلى درجات التدريب.
الله معنا وهم الشيطان معهم.
ولكن الله قال لعباده: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ".
انتابت شوقي حالة من الحيرة والارتباك وبدى ذلك على وجهه، حضنه أبوه بحرارة وهتف بدفء وحنان: "أنت شاب عظيم يا شوقي، أنا فخور بك، ما فعلته دليل على طهارة قلبك وشجاعته وحبه العظيم لوطنه". تهلّلت أسارير شوقي وارتاح قلبه لهذا الإطراء غير المتوقّع من أبيه.
عملك هذا عظيم ولكنه عفوي وعاطفي، هذا جيد ولكن يحتاج إلى إعمال العقل والتدريب واختيار الوقت المناسب.
يا حبيبي ويا حشاشة قلبي الأمر يحتاج الى تدريب وتجهيزات كثيرة، ألا تسمع وتقرأ عن تدريبات المقاومة وإعدادها الكبير لعناصرها، عملك هذا عظيم ولكنه عفوي وعاطفي، هذا جيد ولكن يحتاج إلى إعمال العقل والتدريب واختيار الوقت المناسب، ما رأيك لو أكملت تعليمك خاصة وأنت مجتهد وذكيّ ثم ننظر أين يحتاجك الوطن فتفعّل طاقتك وقدراتك حيث يحتاجك الوطن، أليس هذا هو الأفضل؟
أنا أحب أن يحتاجني الوطن في المقاومة والانتقام من هؤلاء المجرمين.
دعني حبيبي أسالك سؤالا مهمّا: نحن الشعب الفلسطيني نريد أن ننتقم أم ننتصر؟ من الأفضل؟
طبعا أن ننتصر.
لذك دعنا نفكّر في ما علينا فعله حتى ننتصر. وأهم شيء أن تعلم يا ولدي لا يمكن لنا أن ننتصر دون أن نرتفع بالعلم والإيمان، انظر في قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.) العلم هو طريق الانتصار والفلاح والنجاح.
والمقاومة؟
لا يمكن أن ننجح بها دون العلم، كيف تنتصر المقاومة على أعدائها الذين يستخدمون العلم أعلى درجات الاستخدام؟
نعم صحيح، لا بدّ من العلم.
إذا اليوم عليك بإكمال تعليمك، بعد تخرجك من الجامعة ستخدم المقاومة بطريقة أفضل وستجدني لك من خير المشجّعين، لا تقلق أبدا أنا معك على طول.
أبدع شوقي في مسيرته التعليمية، أكمل التوجيهي بهمة عالية واستوى على سوقه في كليّة الهندسة، استوى على سوقه ينهل العلم ويطور خبراته وعينه على تسخير ما يتعلّم للمقاومة.
ثمّ إنّه انتمى للمقاومة مبرمجا ومطوّرا للمهارات والخبرات ذات الصلة بتطوير السلاح والاستفادة من الخبرات المتاحة، وتلقّى مجموعة من الدورات خارج البلاد بعد تخرّجه من الجامعة، وعاد إلى غزّة خبيرا في هذا المجال، ولم يغب عن ذاكرته لحظة ذاك النقاش مع أبيه بعد تلك الغزوة على الحدود.
وكان السابع من أكتوبر والنجاح الباهر في اختراق كل حصون الأعداء دفعة واحدة، بتخطيط محكم وتوظيف عظيم لخبرات مذهلة أثبتت المقاومة أنّ لها عقلا يتفوّق على العقل الصهيوني المزوّد بكل تقنيات وخبرات العقل الغربي.
وكان السابع من أكتوبر والنجاح الباهر في اختراق كل حصون الأعداء دفعة واحدة، بتخطيط محكم وتوظيف عظيم لخبرات مذهلة أثبتت المقاومة أنّ لها عقلا يتفوّق على العقل الصهيوني المزوّد بكل تقنيات وخبرات العقل الغربي. كان لشوقي وللمئات من عناصر الفريق التقني الفضل الكبير في هذا التفوّق. ولم تتوقّف المعركة في حدود ما أنجز في ذاك اليوم العظيم بل استمرّت في أداء مذهل قرابة السنتين، ثلّة من رجال المقاومة في قطاع غزّة تواجه أعتى جيوش المنطقة الذي تسانده القوة العظمى العالمية وكل قوى الاستكبار والاستعمار. ما كان هذا ليحدث لولا الإيمان الراسخ والمزوّد بهذه العلوم والخبرات والإرادات التي يحملها هؤلاء الرجال.
خاض شوقي معارك كثيرة إشرافا وتطويرا كقائد في الميدان، في تلك الأنفاق حيث استمرارية صناعة الذخائر بكل أنواعها، وكان هزيم القصف والقنابل الثقيلة التي تهتزّ لها الأرض وتخلخل قواعد الأنفاق من أساساتها تجتاحهم بين الحين والأخر، وكانوا يضطرون إلى تغيير مواقعهم من نفق لآخر، فقدوا كثيرا من المجاهدين الصادقين، كلّ ما رحل شهيد تخيّل شوقي نفسه أنه الذي يليه، استوت في نفسه معاني البقاء في هذه الحياة أو الرحيل، طالما تذكّر غزوته يوم كان طفلا وكيف مدّ الله له في عمره ليشهد هذه الزلازل وهذه الحرب الضروس.
كلّ ما رحل شهيد تخيّل شوقي نفسه أنه الذي يليه، استوت في نفسه معاني البقاء في هذه الحياة أو الرحيل، طالما تذكّر غزوته يوم كان طفلا وكيف مدّ الله له في عمره ليشهد هذه الزلازل وهذه الحرب الضروس.
أوقع كثيرا في صفوفهم وكان سببا في تحطيم العشرات من دباباتهم، دائما يتحلّى هذه الابتسامة الجميلة التي تكسو وجهه الحنطي الهادىء. ولا يكون فرحه أشدّ من خبر يأتيه عن تحطيم دبابة أو نجاح في إيقاعهم في كمين للمقاومة. تلقى خبر استشهاد أبيه ثم أخيه، يحوقل ويحمد الله، يبتسم ثم يقول "هم السابقون ونحن اللاحقون".
وكان على قدر مع الشهادة عندما أشرف مباشرة على كمين مركّب من ثلاثة مراحل شرقي خانيونس، كان بمثابة غزوة أرادت المقاومة أن تحدث زلزالا في الجبهة النفسية لعدوّها، في زمن ظنّوا أن التفاوض يغطّي على جرائمهم فجاءتهم المقاومة لتهتك ستر عجزهم وتهالك جندهم، كان قادتهم يهدّدون بتحويل غزة إلى جحيم فصنعت لهم المقاومة جحيما يلتهم دباباتهم وجنودهم.
بدأ العمل لهذه الغزوة المباركة بتحضير العبوات المناسبة بعد إقرار الخطة ونقاشها بدقة وتفصيل، المرحلة الأولى تقتضي زراعة العبوات بعد دراسة المكان حسب حصاد دائرة الرصد، التفجير الأوّل في الدبابة الأولى التي تصل المكان ثم تأتي إمدادات الإنقاذ فيجري التفجير الثاني ثم تفتح قواتنا المتربصة بالمكان نارها على كل محاولات الإنقاذ، أبى شوقي إلّا أن يكون في مقدمة المجموعة الزارعة وأن يشارك في كل الخطوات من ألفها إلى يائها.
كان على قدر مع الشهادة عندما أشرف مباشرة على كمين مركّب من ثلاثة مراحل شرقي خانيونس، كان بمثابة غزوة أرادت المقاومة أن تحدث زلزالا في الجبهة النفسية لعدوّه.
وكان حصاد هذه العملية ذات التركيب الثلاثي حسب اعترافات جيش العدوّ تسعة قتلى وبالطبع يكون الجرحى ثلاثة أضعاف هذا العدد والمخفي أعظم.
جن جنونهم وأسقطت طائراتهم أطنانا من الصواريخ المتفجرة، دمّروا مربعا سكنيا كبيرا، كانوا بذلك أسرع من خطة الانسحاب فأصيب عدد من المقاومين كان منهم بطل هذه القصة شوقي. وقد نقلوا عنه أنه في الأيام الأخيرة كان كثير الذكر للشهادة وكان أبوه حاضرا في حديثه وكأنه اشتاق لكليهما الشهادة ولقاء أبيه.