وائل الزرد.. شيخ المنبر وشهيد المعركة
6 أغسطس 2025
بين يدي ابنته بسلم أسلم الشيخ وائل الزرد روحه إلى بارئها، بعد استهداف منزله بأربعة صواريخ فجر الثالث عشر من أكتوبر 2023. كانت بلسم آخر ما وقغت عليه عيني الشيخ وهي تلقنه الشهادتين ودموعها تنساب فوق وجهه المثقل بالجراح، ليُختتم فصل رحيله بمشهد الشفاء والعزاء.
لم يفارق الشيخ وائل الزرد الحياة قبل أن يطمئن على ابنته الحنون، بلسم. وبين الغبار والدخان المتصاعد، كان صوته المتعب يتمسك بالحياة وهو يهمس محاولا إيقاظها بعد إصابتها: "بلسم، اصحي... يلا يا بلسم".

في ليلة القصف، عادت أسرة الزرد إلى منزلها بعد نزوحٍ مؤقت، تلبيةً لرغبة الشيخ وائل الذي أصرّ على العودة، قائلاً: "حابب نقعد لحالنا هالمرة". تحكي زوجته أسماء أن الشيخ استيقظ في تلك الليلة لقيام الليل، ثم توجّه إلى المسجد القريب، أذّن فيه وصلى الفجر، وعاد بعدها إلى بيته مطمئنّا. لكن ما هي إلا ساعات حتى هبطت الصواريخ على منزل العائلة وهم نيام، فحوّلت لحظات السكون والسكينة إلى مشهد دام، امتزج فيه الغبار بالدم، والصمت بالفاجعة.
حرصت أسماء على أن ينام أبناؤها قرب باب المنزل، ليكون خروجهم أسرع وأسهل إن تعرضوا للقصف. لكن الصاروخ الأول كان أشد مما توقعت، إذ دفعها مع اثنتين من بناتها خارج المنزل بفعل قوته الهائلة، بينما بقيت بلسم ووالدها الشيخ وائل عالقين في الداخل تحت الركام.
لم تتوقف آلة القتل الإسرائيلية عند ذلك، بل أطلقت صاروخا آخر فور دخول عبد الرحمن، فأُصيب هو وبلسم بجروح بالغة، لتُضاف الإصابة إلى الفقد، في مشهد يتكرر كل يوم على هذه الأرض الجريحة.
بعد لحظات، وصل نجلهم عبد الرحمن، متسلقا الأنقاض، ليجد شقيقته بلسم تُلقّن والدها الشهادتين وسط الغبار والدماء. حاول سحبها للخارج، لكنها رفضت أن تترك والدها وحيدا في لحظاته الأخيرة، متمسكة به رغم النزف والخوف.
لم تتوقف آلة القتل الإسرائيلية عند ذلك، بل أطلقت صاروخا آخر فور دخول عبد الرحمن، فأُصيب هو وبلسم بجروح بالغة، لتُضاف الإصابة إلى الفقد، في مشهد يتكرر كل يوم على هذه الأرض الجريحة.

قبل نحو أسبوعين فقط من استشهاد الشيخ الزرد، فقدت العائلة نجلها البراء شهيدا، وما كان من الزرد إلا أن يبقى قويا ليثبت عائلته من حوله، ويتوارى ليبكي نجله، وكانت زوجته أسماء تسمعه يناجي الله في قيامه بعد اسنشهاد نجله: "اللهم ألحقني بالبراء شهيدا ولا تأخذني إليك إلا شهيدا".
يوم استشهاد البراء، كان الشيخ وائل يتحدث بهدوء وإيمان إلى ابنه عبد الرحيم وأهله قائلا: "خمسين سنة وأنا أعمل للشهادة… لكن براء سبقني ونالها".
كانت زوجته أسماء تسمعه يناجي الله في قيامه بعد اسنشهاد نجله: "اللهم ألحقني بالبراء شهيدا ولا تأخذني إليك إلا شهيدا".
تركت عائلة الزرد إرثا من الصبر والإيمان. بعد فقدان زوجها وابنها وبيتها، فكّرت السيدة أسماء أن تواصل نهج الشيخ الزرد داعية، فأسَّست مشروع "طوفان الأقصى" لتحفيظ القرآن في مراكز الإيواء بغزة. بدأ المشروع بحلقة واحدة ثم توسع ليشمل 50 حلقة، تضم نحو 1800 طالب وطالبة. وحتى أبناؤه يُكملون المسيرة؛ فقد حفظت ابنته بلسم القرآن كاملا وتتطلع لأن تكون دكتورة في الشريعة الإسلامية على منهج والدها الشهيد.

ولد الشيخ وائل محيي الدين سيد الزرد في مدينة غزة عام 1972، وترعرع بين أحضان علوم الدين منذ نعومة أظفاره. حفظ القرآن الكريم عام 1992 وبدأ ينهل من علوم الشريعة مبكرا. تابع الشيخ وائل تعليمه الجامعي فنال الإجازة في أصول الدين عام 1995، ثم الماجستير في علم الحديث عام 2001، إلى أن حاز درجة الدكتوراه من جامعة عين شمس بالقاهرة. كانت رحلته العلمية تسير بخطى ثابتة، حتى تخرّج داعية إسلاميا وأكاديميا كرّس علمه وجهده في خدمة الإسلام والدعوة.
مع تقدمه في العلم والفضل، شغف الشيخ وائل بالعلم والتعليم، فعمل إماما لجامع العمري الكبير بالبلدة القديمة في غزة منذ عام 1996. كما تولى إمامة مسجد المحطة في حي الدرج، واشتهر بخطبه الجهادية. إلى جانب ذلك، عمل محاضرا بقسم الدراسات الإسلامية في الجامعة المفتوحة والجامعة الإسلامية بغزة، ولاحقا في كلية العلوم التطبيقية. جمع الشيخ الزرد بين الورع الفقهي والحضور العلمي، فكان يلقي محاضراته وأحاديثه بلغة سلسة ومؤثرة، تنساب في أذهان طلابه والمستمعين إليه.
جمع الشيخ الزرد بين الورع الفقهي والحضور العلمي، فكان يلقي محاضراته وأحاديثه بلغة سلسة ومؤثرة، تنساب في أذهان طلابه والمستمعين إليه.
لم يقتصر عمله على المنبر والمسجد، بل امتد نشاطه ليشمل العمل الخيري والاجتماعي. فقد تولى رئاسة جمعية "غزة تستحق الحياة" للأعمال الخيرية، وأسّس مركز "هاتين" لرعاية الأيتام. وكان بذلك رمزا للخير والعطاء، يسهم بشتى الوسائل في دعم الأسر المتعففة والأطفال الأيتام في قطاع غزة. تعكس مبادراته جانبا إنسانيا عميقا، إذ حرص على رعاية المجتمع الفلسطيني بروح تعاونية مستلهمة من قيم الدين ومبادئه.
عُرف الشيخ وائل أيضا بتفاعله الإعلامي والدعوي خارج حدود المسجد، فقدم برامج دينية أسبوعية على فضائية الأقصى بعنوان "ورثة الأنبياء" و "دروس العصف المأكول". وعلى شاشات التلفاز ومجالس اللجان، كان صوته الواثق والهادئ يصل إلى البيوت، يحث الناس على حب العلم والدين وقيم الخير.
وخلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، وقف الشيخ جنديا يسير مع شعبه في ساحة الصمود، حاملا معهم همّ الدفاع عن أرضهم بالإيمان والصبر.
في خطبه ومحاضراته كان الشيخ الزرد يجمع بين الروحانية والواقعية؛ فقد كان يرفع من معنويات المستمعين في أحلك الظروف. اشتهر بخطب تحفّز المقاومين وتزرع فيهم الأمل، حتى قيل إن "خُطبه الجهادية" كانت توقد النفوس وتصقلها. وخلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، وقف الشيخ جنديا يسير مع شعبه في ساحة الصمود، حاملا معهم همّ الدفاع عن أرضهم بالإيمان والصبر.
حفظ الزرد القرآن في شبابه، وعلّم أهل مدينته، وعطف على صغارهم وكبارهم، كانت حياته حافلة بالعلم والعمل، وترجل عن الدنيا بذات الروح الثابتة التي سخرها في حياته.
سردُ حياة الشيخ وائل الزرد يظلّ قصة من قصص غزة التي يرويها كل شهيد للأجيال القادمة. ترك خلفه ثمانية أبناء وأسرة مُحبّة تفتخرُ به؛ وبقي مثاله حيّا في قلوب الكثيرين الذين استمدوا من علمه وإخلاصه دروسا في الإيمان والإنسانية والحب للوطن. وستظل كلماته نبراسا يسلكه القادمون في درب الحرية، وذكره ماثلا في ذاكرة أهل غزة.