تحت غبار الإبادة: بازار الأرقام القياسية لاقتحامات الأقصى
5 أغسطس 2025
صبيحة العاشر من مايو 2021، كان المسجد الأقصى على موعد مع فاصلة تاريخية ستصبح علامة فارقة في تاريخ المسجد الأقصى، إذ كان المستوطنون يستعدون عند باب المغاربة لتنفيذ أكبر عملية اقتحام في تاريخ المسجد الأقصى، وكسر عزيمة المرابطين والمرابطات الذين ملؤوا باحاته ومصلياته. فيما تجمهر الشبان وسط الساحة الرئيسية متجهزين بصدورهم العارية وشيء من حجارة وكراسي لصد أعتى اقتحام منذ أن احتل المسجد الأقصى.
جرب الاحتلال في ذلك الصباح كل الطرق لتسهيل اقتحام المستوطنين، لكن كف الشبان ذلك اليوم لاطم مخرز الاحتلال بضراوة، ومنع الاقتحام في مشهد تاريخي ألهب العالم حينها، وسط ثبات غير مسبوق للشبان في وجه رصاص الاحتلال المطاطي، لينتهي اليوم في مشهد تاريخي أُفشِل فيه الاقتحام بشكل تام.
صدى هذه البطولة وهذا الصمود التاريخي تردد في غزة تحت الأرض وفوق الأرض، لتكمل غزة يومها مشهد البطولة بإطلاق معركة سيف القدس انتصارا للأقصى، وإفشالا لمسيرة الأعلام في باب العامود وحماية لأهل الشيخ جراح، لتكون هذه المعركة هي أول معركة تفتتحها المقاومة ويكون المسجد الأقصى والقدس هو عنوانها الأبرز.
جرب الاحتلال في ذلك الصباح كل الطرق لتسهيل اقتحام المستوطنين، لكن كف الشبان ذلك اليوم لاطم مخرز الاحتلال بضراوة، ومنع الاقتحام في مشهد تاريخي ألهب العالم حينها.
منذ مساء ذلك اليوم وحتى أكتوبر 2023، بدا أن للقدس سيفا حقيقيا وليس "شعاراتيا" فقط، وبات الاحتلال يضع غزة نصب عينيه في كل خطوة قد يقوم بها في المسجد الأقصى، وحينما ظنّ أن غزة ركنت إلى نفسها، جرّب أن يصعد بالأقصى مجددا باقتحام المصلى القبلي واعتقال مئات المرابطين بعد سحلهم وسحل عشرات المرابطات في باحات المسجد الأقصى، فجاءه الرد في عملية نوعية في منطقة الأغوار خلال نيسان 2023، والتي أسفرت عن مقتل 3 مستوطنات. لتعلن كتائب القسام بعد أقل من شهر عن تبني العملية "ردا على الاعتداء على المعتكفين وسحل الحرائر في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان".
أقل من 4 أشهر بعد ارتقاء الشهيدين، كانت المقاومة الفلسطينية في غزة على موعد مع أكبر عملية بالتاريخ الفلسطيني، والتي صبغت أيضا بصبغة القدس والمسجد الأقصى انطلاقا من اسمها "طوفان الأقصى"، ومرورا بخطاب القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف الذي اعتبر أن المسجد الأقصى أحد محركات هذا الطوفان، وليس انتهاء بمشاهد جنود المقاومة وهم يدوسون على جنود الاحتلال ويرددون كلمات من قبل "بتتمرجلوا على النسوان بالقدس".
المحصلة أن المقاومة في قطاع غزة بشكل خاص، وفي عموم فلسطين أيضا، خلقت معادلة ما بين 2021 و 2023، جعلت من المسجد الأقصى معادلة الصراع الأبرز ومحرك الانفجار الأهم في طبيعة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
في العامين الأخيرين ومع انشغال المقاومة في صد العدوان عن غزة، بدا أن المستوطنين يسعون لاستغلال هذا الانشغال لإحداث خرق في الوضع القائم في المسجد الأقصى، لاسيما مع ما مارسته قوات وشرطة الاحتلال في الضفة والقدس من حملة اعتقالات غير مسبوقة بالتاريخ، استهدفت بالمقام الأول الأسرى المحررين في الضفة، ومرابطي المسجد الأقصى من الرجال والنساء والشبان في القدس، مع إعطاء قرارات إبعاد عن الأقصى والبلدة القديمة لجميع المرابطين المؤثرين والذين يملكون القدرة على الحشد داخل المسجد الأقصى وفي محيطه، لتعمل على تفريغ الأقصى بشكل ممنهج، إلى جانب تقييد وصول أهل الضفة للقدس بشكل شبه كامل، وبذلك أصبح المسجد الأقصى لقمة سائغة في نظر اليمين الإسرائيلي المتطرف والصهيونية الدينية التي يتقدمها بن غفير عرّاب اقتحامات المسجد الأقصى.

استغلالا لكل ما سبق الحديث عنه، تفرغت جماعات الهيكل والصهيونية الدينية منذ بداية العام الجاري بشكل كامل، ووضعت نصب أعينها الانتقال إلى مرحلة جديدة في طبيعة اقتحامات المسجد الأقصى عبر كسر كل الخطوط الحمراء، وهو ما كان لهم، حتى أصبح العام الجاري أسوأ عام في تاريخ المسجد الأقصى منذ احتلاله على يد الاحتلال الإسرائيلي.
صبيحة الثالث من أغسطس، كان المسجد الأقصى على موعد مع أسوأ يوم في تاريخه، فقد حقق المستوطنون في هذا اليوم أعلى رقم مقتحمين للمسجد الأقصى خلال يوم واحد بـ 3969 مقتحم، وحققوا أعلى رقم مقتحمين خلال فترة اقتحام واحدة وهي الفترة الصباحية بـ 2953 مقتحم، وبالمحصلة حققوا أعلى عدد مقتحمين خلال المناسبات الدينية اليهودية في تاريخ المسجد الأقصى، والتي صادف أن تكون ذكرى "خراب الهيكل". بينما كانوا في العام 2020 لا يستطيعون جمع أكثر من 1100 مستوطن لاقتحام الأقصى في مثل تلك المناسبة كما تشير الأرقام والإحصائيات الرسمية.
تفرغت جماعات الهيكل والصهيونية الدينية منذ بداية العام الجاري بشكل كامل، ووضعت نصب أعينها الانتقال إلى مرحلة جديدة في طبيعة اقتحامات المسجد الأقصى عبر كسر كل الخطوط الحمراء.
لم تكن ذكرى "خراب الهيكل" مختلفة عن غيرها من المناسبات والأعياد الدينية خلال العام الجاري، فقد كان عيد الفصح خلال شهر نيسان الماضي هو الآخر أحد أسوأ المناسبات في تاريخ المسجد الأقصى، فقد اقتحم المسجد الأقصى في هذه المناسبة 6866 مستوطن وهو أعلى رقم يستطيع المستوطنون تحقيقه في تاريخ عيد الفصح، وفي ذات الشهر، كان المستوطنون على موعد مع رقم قياسي جديد وهو أعلى عدد مقتحمين للمسجد الأقصى في التاريخ في شهر واحد بواقع 10106 مقتحمين.
وخلال عيدي المساخر والأسابيع، وذكرى احتلال القدس أيضا، استطاعوا أن ينفذوا عمليات اقتحام للأقصى هي الأعلى من حيث عدد المقتحمين بالنسبة لتلك المناسبات، لكن خطورة هذا التصعيد لا تكمن فقط من الناحية الرقمية العددية فقط، بل إن الخطورة النوعية تشكل ناقوس خطر على مستقبل المسجد الأقصى برمته.

هذه المخاطر النوعية تتمثل في ممارسات المستوطنين المقتحمين للمسجد الأقصى، سواء من حيث رفع الأعلام الجماعية داخل باحات المسجد والتي تشير إلى أن المسجد هو حق قومي لليهود، أو إدخال "لفائف التيفلن" لباحاته لأكثر من 4 مرات هذا العام، والتي تمثل خطورة رمزية كبيرة إذ تعني هذه اللفائف أن المستوطنين بدأوا يتعاملون مع المسجد الأقصى على أنه كنيس يؤدون به طقوسهم التلمودية، هذا بالإضافة إلى تأدية الانبطاح الجماعي، و السجود الملحمي، وصلوات بركة الكهنة، ورفع علم الهيكل في محيط الأقصى ومحاولات إدخال تابوت الشريعة إلى رحابه.
نأتي إلى سؤال مفصلي في ظل انشغال المقاومة بصد العدوان عن قطاع غزة وبعد تدمير "مخيمات المقاومة" في الضفة الغربية ومفاد هذا السؤال: ماذا بعد أن تجاوز المستوطنون كل الخطوط الحمراء في المسجد الأقصى ؟
فيما تمثلت باكورة هذه الممارسات الخطيرة بنجاح مستوطن من إدخال قربان حيواني إلى داخل باحات الأقصى في 12 مايو الماضي، قبل أن يتمكن المرابطين في اللحظات الأخيرة من إفشال عملية ذبحه داخل الباحات، والتي تمثل بالنسبة للمستوطنين "مفتاح الخلاص، وأن دم هذا القربان قد يستجلب المخلّص بمعجزة إلهية تحسم الصراع وتسرّع بناء الهيكل". وهذا يعني أن ذلك المستوطن لو نجح في عملية ذبح القربان، لانتقل مربع النقاش فيما يخص المسجد الأقصى من مربع الانتهاكات إلى مربع الإطار الزمني لهدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه، وهنا تكمن خطورة ما يحدث.
إزاء هذا الطرح المفصّل لما يحدث في المسجد الأقصى خلال السنوات الأربع الماضية، والتي كانت في معظمها تشكل المقاومة معادلة مهمة تحمي من خلالها المرابطين وتحمي المسجد الأقصى وتدفع الأثمان باهظة في سبيله، نأتي إلى سؤال مفصلي في ظل انشغال المقاومة بصد العدوان عن قطاع غزة وبعد تدمير "مخيمات المقاومة" في الضفة الغربية ومفاد هذا السؤال: ماذا بعد أن تجاوز المستوطنون كل الخطوط الحمراء في المسجد الأقصى ؟