من النكبة إلى الإبادة: محطات من ذاكرة الخذلان لفلسطين وقضيتها
23 يوليو 2025
"سيسجل التاريخ أنكم أضعتم فلسطين، سأسترد القسطل وسأموت أنا وجميع إخواني المجاهدين قبل أن أرى تقصيركم وتواطؤكم"، كانت هذه رسالة القائد عبد القادر الحسيني إلى اللجنة العكسرية للجامعة العربية بعد رفضها دعم المجاهدين بالسلاح للدفاع عن قرية القسطل الفلسطينية، عقب ورود أنباء عن سقوطها في أيدي الاحتلال الإسرائيلي عام 1948.
على مشارف القدس، قاتل الحسيني ومن معه بما يملكون من السلاح، في واحدة من أكثر المعارك رمزية في التاريخ الفلسطيني. انتهت معركة القسطل بمقتل 150 صهيونيا وسقوط عشرات الجرحى، غير أن الحسيني استشهد عند أول بيت من بيوت القرية، وكان قد بعث قبلها بيومين رسالة إلى أمين الجامعة العربية في القاهرة، حمّل فيها الدول العربية مسؤولية ترك المجاهدين في أوج انتصاراتهم بلا عون أو سلاح.

إن خذلان غزة اليوم، ليس إلا امتدادا لتاريخ طويل من التخاذل الرسمي العربي تجاه القضية الفلسطينية، تاريخ لم تبدأ فصوله في القسطل عام 1948، ففي عام 1936، أثناء الثورة الفلسطنية الكبرى، وجّهت الحكومات العربية برقيات إلى اللجنة العربية العليا - التي كانت تمثل القيادة السياسية للثورة آنذاك- تطالبها بوقف الإضراب العام، الذي استمر ستة أشهر احتجاجا على السياسات البريطانية، وتصاعد الهجرة اليهودية في فلسطين. ورغم أن الإضراب كان إحدى أدوات المقاومة الشعبية حينها، إلا أنه أجهض بطلب عربي رسمي، الأمر الذي مثل أولى صور التدخل السياسي الذي كبّل إرادة الشعب الفلسطيني.
لم تكن القسطل سوى مقدمة لسلسلة محطات اتسمت بالخذلان، التي ترك فيها الثائر الفلسطيني وحيدا في ساحة المعركة، دون معونة أو سلاح.
وفي عام 1948، لم تكن القسطل سوى مقدمة لسلسلة محطات اتسمت بالخذلان، ترك فيها الثائر الفلسطيني وحيدا في ساحة المعركة، دون معونة أو سلاح. لاسيما هزيمة 1967، حين انهارت الجبهات العربية سريعا، مخلفة وراءها القدس وسيناء والضفة والجولان تحت وطأة الاحتلال.
من اتفاق "كامب ديفيد" إلى اتفاقات "أبراهام"، حيث شكل الأول لحظة فاصلة في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي، وذلك بانسحاب كبرى الدول العربية من معادلة المواجهة، وفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التفاوض الفردي والمساومات السياسية، بلغت ذروتها في اتفاقات التطبيع الأخيرة مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، التي جاءت تحت غطاء السلام الإقليمي والازدهار المشترك.
وبينما تتفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، تواصل معظم الحكومات العربية الاكتفاء بالصمت أو إصدار بيانات خجولة، بل إن بعضها ماضٍ في تعميق علاقته مع الاحتلال في إطار اتفاقات تطبيع، جاءت على حساب الدم الفلسطيني.
منذ ما يقرب العامين، يرزح قطاع غزة تحت عدوان إسرائيلي عسكري همجي ومتواصل، لم يترك بشرا ولا حجرا إلا وأحاله إلى هدف مشروع للقصف والتدمير، فيما يُفرض حصار خانق على أكثر من مليوني فلسيطني، يجبرون على النزوح المتكرر تحت النار، في مشهد يومي من الإبادة والتجويع. وبينما تتفاقم الكارثة الإنسانية في غزة، تواصل معظم الحكومات العربية الاكتفاء بالصمت أو إصدار بيانات خجولة، بل إن بعضها ماضٍ في تعميق علاقته مع الاحتلال في إطار اتفاقات تطبيع، جاءت على حساب الدم الفلسطيني.
أما الجيوش العربية، فقد تحولت إلى حصون شاهقة لأنظمة فقدت قرارها الوطني.
والحقيقة أن الأنظمة العربية لم تتخذ حتى الحدّ الأدنى من الخطوات السياسية أو الدبلوماسية لوقف الإبادة الجماعية في غزة، رغم قدرتها على ذلك لو توفرت الإرادة. إذ لم تقدم - على الأقل – دول الطوق على طرد سفراء الاحتلال أو إغلاق مكاتبه وممثلياته. ويرى مراقبون أن بعض هذه الأنظمة باتت تتقاطع استراتيجيا مع إسرائيل في مواجهة الإسلام السياسي وتيارات المقاومة، ما جعل منها طرفا حليفا، بل شريكا في الإبادة. أما الجيوش العربية، فقد تحولت إلى حصون شاهقة لأنظمة فقدت قرارها الوطني.
لطالما شكّلت القضية الفلسطينية درسا سياسيا عابرا للأجيال، ولعبت دورا مهما في تأسيس الوعي النضالي للشباب العربي، الذي نشأ على قناعة راسخة بأن العدالة تقتضي عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه، ومقاومة المحتل بكل الوسائل المتاحة. واليوم، في ظل أنظمة أصابها الإعياء من تحمل تبعات القضية الفلسطينية، يبرز السؤال عن دور الشارع، أرض الشعوب والحشود، بعد تاريخ طويل من كبح طموحاتها ومصادرة حقوقها من قبل الأنظمة المستبدة.
إذا تحقق خذلان الأنظمة، فإن واجب النصرة لا يسقط، بل ينتقل إلى القوى الحية داخل المجتمع، من نقابات وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني، إلى المثقفين والمغتربين والناشطين على مختلف الجبهات.
وإذا تحقق خذلان الأنظمة، فإن واجب النصرة لا يسقط، بل ينتقل إلى القوى الحية داخل المجتمع، من نقابات وأحزاب ومؤسسات مجتمع مدني، إلى المثقفين والمغتربين والناشطين على مختلف الجبهات. وتقع على الشعوب مسؤولية إبقاء جذوة القضية متقدة، وتوظيف كل ما تملكه من أدوات التأثير والمقاومة. لاسيما الشارع، الذي يظلّ ميدان الضغط الأول، وقوة التغيير الأصيلة. وتبقى الشعوب القوة الثورية الراسخة، التي تمتلك الاستعداد الفطري للثورة والتغيير. وإن خذلت، فإنما يكون ذلك انعكاسا لإخفاق القيادة السياسية أمام عفوية الجماهير، وفشلها في التنظيم ورفع الوعي السياسي، أو سقوط النخب في فخ المصالح الضيقة، وتحولها إلى أداة في يد السلطة. وليس من طبيعة الشعوب التخاذل أو الخيانة الجماعية.
إن الشعوب لا تختزل في نخبتها، التي تسرّع وتؤطر، لكنها ليست وحدها من يشعل شرارة التغيير. فالشعوب قادرة على التحرك بذاتها حين تحتدم التناقضات وتبلغ المعاناة ذروتها، وتفشل النخب في تمثيل تطلعات الناس.
إذن، هل يشترط نهوض النخبة لانتفاض الشعوب؟ رغم دور النخب المحوري في توجيه وعي الجماهير، وتنظيم أدوات الفعل والتأثير، خاصة في ظل أنظمة تعمد إلى تفكيك البنى التنظيمية وإضعاف الروح الجمعية. ومع ذلك، فإن الشعوب لا تختزل في نخبتها، التي تسرّع وتؤطر، ولكنها ليست وحدها من يشعل شرارة التغيير. فالشعوب قادرة على التحرك بذاتها حين تحتدم التناقضات وتبلغ المعاناة ذروتها، وتفشل النخب في تمثيل تطلعات الناس.
رغم تعقيدات الواقع، تظل الميادين والشوارع الخطوة الأولى نحو الخلاص، وكلمة الفصل أمام انسداد الأفق. فالشارع لنا، ملكا وإرادة، ونحن الأفراد نملك سلاحا يكافئ الطائرات والدبابات، صوتا ووعيا وموقفا. هذه هي المعركة الأخلاقية المفتوحة، والاختبار الحاسم للضمير الإنساني والعدالة الكونية.