سلاح التجويع في غزة: أداة إبادة واستراتيجية إخضاع
20 يوليو 2025
لا يندرج استخدام إسرائيل لسلاح التجويع في غزة ضمن تداعيات الحرب أو آثارها الجانبية، بل يتجلى بوصفه خيارا استراتيجيا واعيا وممنهجا، يُشكّل جزءا لا يتجزأ من منظومة الإبادة المركبة التي تستهدف الوجود الفلسطيني ماديا ورمزيا. فالتجويع، في هذا السياق، ليس مجرّد حرمان من الغذاء والدواء، بل هو سياسة استئصالية وانتقامية تسعى إلى كسر الإرادة، وتفكيك المجتمع، وهدم مقوّمات الصمود.
التجويع ليس مجرّد حرمان من الغذاء والدواء، بل هو سياسة استئصالية وانتقامية تسعى إلى كسر الإرادة، وتفكيك المجتمع، وهدم مقوّمات الصمود.
لقد تبنّى الاحتلال الصهيوني منذ سنوات طويلة أسلوب الحصار، باعتباره أداة للإخضاع السياسي والعقاب الجماعي للحاضنة الاجتماعية والشعببة للمقاومة. غير أن ما نشهده اليوم، في سياق العدوان المستمر على غزة، يتجاوز مفهوم الحصار إلى ما يمكن تسميته بـ"الهندسة الإبادية للجوع"، حيث يُحوَّل الغذاء إلى سلاح، ويُدار تدفّق الموارد الإنسانية وفق منطق التحكم والسيطرة، لا وفق مقتضيات القانون الدولي أو المبادئ الإنسانية.
فالتجويع يُستخدم هنا أداة لإعادة تشكيل العلاقة بين الفلسطيني وأرضه، وبين الفرد وجماعته، وبين الإنسان وكرامته، وبين الأمة وفلسطين. إذ تُمارس إسرائيل سياسة الحرمان الممنهج من أساسيات الحياة: منع دخول الأغذية، تدمير البنية التحتية للمياه والطاقة، عرقلة وصول المساعدات، وفرض واقع اقتصادي خانق يجعل غزة منطقة غير قابلة للعيش حتى تصبح الحياة فيها شبه مستحيلة في أفق جعل التهجير الحل الوحيد.
أخذ سلاح التجويع بعدا نفسيا عميقا، فهو لا يستهدف الجسد فقط، بل يتعمّد كي الوعي وتحطيم الإرادة وتشويه صورة الشعب الفلسطيني ومقاومته.
ويأخذ سلاح التجويع بعدا نفسيا عميقا، فهو لا يستهدف الجسد فقط، بل يتعمّد كي الوعي وتحطيم الإرادة وتشويه صورة الشعب الفلسطيني ومقاومته، عبر دفع الناس إلى ربط المقاومة بالجوع، والصمود بالحرمان، في محاولة لخلق حالة من اليأس والانكسار. إنه جزء من حرب الوعي، التي تسعى إلى نزع البطولة من الفعل المقاوم، وتقديم الاستسلام بوصفه الخيار الوحيد للحياة.
يجاوز التجويع ضمن منظومة الحرب النفسية كونه فعلًا ماديًا، إلى أن يصبح أداة لتكريس الشعور بالعجز وانهيار الأمل. كما تستخدم المجاعة آلية لـ"إخضاع الوعي"، عبر كسر الصورة البطولية للمقاوم الفلسطيني بتحويله إلى جائع يائس يبحث عن البقاء بأي ثمن.

ومع ذلك، فإن صمود أهل غزة في مواجهة هذا السلاح الإبادي يمثّل وجهًا آخر من وجوه المقاومة الأخلاقية والحضارية. لقد استطاعت غزة، رغم الجوع، أن تحوّل الحرمان إلى فعل وعي، وأن تثبت أن الكرامة لا تُقايَض بالرغيف، وأن الحرية أغلى من المعونات المشروطة. بهذا المعنى، يُصبح التجويع سلاحًا مرتدًا على أصحابه، يُعرّي مشروعهم الإبادي، ويكشف للعالم الطبيعة الوحشية للاحتلال.
صمود أهل غزة في مواجهة هذا السلاح الإبادي يمثّل وجهًا آخر من وجوه المقاومة الأخلاقية والحضارية.
لكن ما يزيد هذا المشهد قتامة، هو الصمت العربي والخذلان الإسلامي أمام مشهد المجاعة المصنوعة والإبادة الممنهجة. إن إصرار الكيان الصهيوني على خلق مجاعة غير مسبوقة في التاريخ المعاصر، يجري على مرأى ومسمع من أنظمة وشعوب لم تعد ترى في القضية الفلسطينية بوابة نهضة أو معيارا أخلاقيا أو عقيدة دينية. هذا الصمت ليس مجرّد حياد، إنما هو مؤشر خطير على تفكيك هوية الأمة وتآكل حسها الجمعي، وتراجعها عن مسؤولياتها الحضارية والدينية في مواجهة الإبادة.
هذا الصمت ليس مجرّد حياد، إنما هو مؤشر خطير على تفكيك هوية الأمة وتآكل حسها الجمعي، وتراجعها عن مسؤولياتها الحضارية والدينية في مواجهة الإبادة.
في الختام، الجوع في غزة فاجعة إنسانية لكنه مرآة تعكس انكماشا استراتيجيا في بنية العالم العربي والإسلامي، تطرح معه بإلحاح أسئلة الكرامة والهوية والمسؤولية الجماعية والمصير المشترك وغياب المشروع النهضوي التحرري الموحد.