مؤسسة غزة الإنسانية: حين تتحول المساعدات إلى سلاح حرب
16 يوليو 2025
على مدار أشهر الحرب، لم تكتف "إسرائيل" بآلة القتل والقصف المتواصل براً وجواً وبحراً، بل عمدت إلى استحداث أساليب جديدة لإحكام السيطرة على قطاع غزة، في إطار استيراتيجية متكاملة تجمع بين القوة العسكرية والتضييق الإنساني. وبين قتل الفلسطيني أوتهجيره وتجويعه، تنكشف ملامح خطط تسعى لفرض واقع جديد على القطاع، يتخفّى تحت قناع الوداعة ويسوّق خلف شعارات الإنسانية الكاذبة.
منذ نهاية مايو/ أيار الماضي، قتل نحو 800 مدني من المجوّعين، أثناء محاولتهم الحصول على الطعام من نقاط توزيع تديرها ما تُعرف بـ "مؤسسة غزة الإنسانية". في تجسيد صارخ لعسكرة الإغاثة وتحويلها من وسيلة للاستجابة الطارئة إلى أداة لتحقيق أهداف استراتيجية أوسع. وفي سياسة تنتهك المبادئ الإنسانية الأساسية. وتضع المساعدات في قبضة الاحتلال الذي يوظفها لتنفيذ مخططاته الإجرامية بحق سكان غزة. فأي مؤسسة إنسانية تلك، التي تحاط بمدافع وجنود وتدار بدماء الجائعين؟!
في ديسمبر/ كانون الأول 2023، وبعد نحو شهرين من اندلاع الحرب، عقد أول اجتماع داخل أروقة كلية "مكفيه إسرائيل"، وجمع مسؤولين وضباطا عسكريين ورجال أعمال، من بينهم مسؤولون أمريكيون، في جلسة عصف ذهني لمناقشة مدى صعوبة هزيمة حماس بالقوة العسكرية وحدها، وبحث سبل تقويض سيطرتها على المدنيين في غزة، من خلال المساعدات.
كما هدفت الخطة – التي انطلقت من رؤية إسرائيلية بحتة - إلى الالتفاف على منظومة الأمم المتحدة، دون أن تتحمّل إسرائيل المسؤولية المباشرة عن رعاية أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع، ما دفع القائمين على الخطة للاستقرار على فكرة منح إدارة توزيع الغذاء لشركات أمنية خاصة، لترسو لاحقاً على شركة "SRS" الأمريكية، التي تضم موظفين من خلفيات استخباراتية وعسكرية، لاسيما رئيسها فيليب رايلي، وهو ضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية "CIA"، وقاد عمليات في أفغانستان ونيكاراغوا ومواقع أخرى.
كعادتها في التحايل وتزييف الحقائق، تصف "إسرائيل" المشروع بالجهد الأمريكي، وتنفي وجود أية ارتباطات بينها وبين "مؤسسة غزة الإنسانية"، رغم مشاركتها الفعلية في التخطيط الأولي والترويج له.
كعادتها في التحايل وتزييف الحقائق، تصف "إسرائيل" المشروع بالجهد الأمريكي، وتنفي وجود أية ارتباطات بينها وبين "مؤسسة غزة الإنسانية"، رغم مشاركتها الفعلية في التخطيط الأولي والترويج له. بينما أصدرت شركة "SRS" - الجهة المسؤولة عن إدارة "مؤسسة غزة الإنسانية" - بيانا تنفي فيه وجود مساهمين أو مصالح إسرائيلية لديها. في حين لا يزال من غير الواضح من هي الجهة القائمة على تمويل عملية المساعدات الضخمة، والتي تشمل تشغيل نحو ألف حارس أمن مسلح، بحسب صحيفة واشنطن بوست.
وأشارت الصحفية إلى أن القائمين على الفكرة، اشترطوا تخويل الجنود الإسرائليين، المتمركزين في محيط مواقع توزيع المساعدات، باستهداف "المشتبه بهم" كجزء من شروط عمل المؤسسة الإغاثية.
أنشئت بموجب الخطة، أربعة مراكز لتوزيع المساعدات: ثلاثة منها جنوب القطاع وواحدة في محور نتساريم في الوسط. ووفقاً لتوجيهات المؤسسة، يُطلب من المدنيين سلوك طرق على بعد مسافة قريبة من مواقع عسكرية تابعة للجيش "الإسرائيلي"، للوصول إلى هذه المراكز. ويوزع الغذاء وفقاً لقاعدة الأولوية لمن يصل أول " first-come, first-served"، دون أي متطلبات للتسجيل. كما تنشر مواعيد فتح المراكز، التي تختلف من يوم إلى آخر، عبر وسائل التواصل الاجتماعي في اليوم السابق فقط.
تتركز غالبتها في جنوب القطاع، مع نقطة واحدة فقط في الوسط، يعكس هذا الترتيب نوايا دفينة لتمرير وتسهيل خطط الاحتلال لتهجير المدنيين من شمال القطاع.
إن تصميم المراكز وعملية التنفيذ برمّتها، ساهمت في زيادة التوتر والذعر في صفوف المدنيين، وخلقت أوضاعاً خطرة للآلاف الذين يتجمّعون لاستلام قوت يومهم. فقلة عدد المراكز، وابتعادها مسافة تزيد عن ميل ونصف عن مناطق تجمع السكان، فضلا عن قربها من مواقع عسكرية "إسرائليلة". في شكل يخرق المبادئ الإنسانية، ويحول المساعدات إلى أداة عسكرية. ويفرض نظاما من السيطرة المغلّفة بغطاء الإنسانية، ويضع قرارات الحياة والموت في يد المحتل.
وبالنظر إلى التوزيع الجغرافي لمراكز المساعدات- تتركز غالبتها في جنوب القطاع، مع نقطة واحدة فقط في الوسط، يعكس هذا الترتيب نوايا دفينة لتمرير وتسهيل خطط الاحتلال لتهجير المدنيين من شمال القطاع، من خلال إجبارهم على السير لمسافات طويلة عبر ممرات تخضع لسيطرة عسكرية "إسرائيلية"، في سبيل الوصول إلى الغذاء.
توظّف "إسرائيل" الإذلال كأداة استراتيجية للسيطرة والتأثير على وعي الفلسطينيين، عبر فرض حالة مستمرة من الحصار والتجويع، تهدف لتحويل القهر إلى ممارسات يومية، ودفع الناس نحو القبول بالأمر الواقع تحت وطأة اليأس والخوف.
وحين تتحول مراكز الإغاثة إلى مصائد موت، ويقترن الحصول على اللّقمة بالخضوع الأمني، يقاد الناس نحو بوابة واحدة يقف خلفها الغذاء، والمتحكمون بالحياة والموت. لا كاستجابة إغاثية طارئة، بل كآلية لضبط الإيقاع البشري، والتحكم بتدفق البقاء. في مشهد يختزل الإنسان في جسد طائع، يمرّر عبر منظومة إغاثية قائمة على إذلال الحاجة.
يقاد الناس نحو بوابة واحدة يقف خلفها الغذاء، والمتحكمون بالحياة والموت. لا كاستجابة إغاثية طارئة، بل كآلية لضبط الإيقاع البشري، والتحكم بتدفق البقاء.
ليس ذلك فحسب، فمشاهد النزوح الجماعي، وطوابير الخبز، ومحاولات الظفر بجرعة ماء، وملاحقة الطائرات للحصول على صناديق مساعدات تسقط كالصخور فوق رؤوس الجائعين، والتكدس في مناطق مكتظّة تفتقر لأبسط مقاومات العيش الكريم، كلّها تحولت إلى مشاهد يومية يحرص الاحتلال على ترسيخها في الذاكرة الجمعية للغزيين، في محاولة لاستعمار الإنسان، وإعادة تشكيل وعيه تحت وطأة القهر والحاجة.