ماذا لو انسحب الاحتلال اليوم من مخيمات طولكرم وجنين ؟
14 يوليو 2025
منذ 21 يناير/ كانون الثاني من العام الجاري، وحتى هذا الوقت يواصل الاحتلال تنفيذ عمليته العسكرية المسماة "السور الحديدي" في مخيمات شمال الضفة الغربية، والتي بدا منذ لحظاتها الأولى أنها ستكون مختلفة عن سابقاتها من العمليات العسكرية، من حيث الشكل والمضمون، والكثافة العسكرية والحدة في الاعتداءات، التي شهدت استخدام الدبابات لأول مرة منذ عقدين.
بعد انتهاء الأسابيع الأولى من بدء العملية، تلاشت مبررات الاحتلال التي ساقها مع إعلانه عن بدء العملية، جاء ذلك بعد ارتقاء المقاومين أو اعتقالهم، ووصول المخيمات الثلاث التي تجري بها العملية بشكل مكثف، إلى معادلة "صفر طلقة". وبرز للعيان أن الاحتلال قد اجتاح هذه المخيمات لإحداث تغييرات استراتيجية، وليس مجرد دخول عسكري تكتيكي.
هذا التغيير الاستراتيجي، الذي سعى الاحتلال إلى ترسيخه داخل المخيمات، تشير إليه طريقة الهدم التي انتهجها الاحتلال، ولم تكن كسابقاتها هدما انتقاميا لبيوت المقاومين ومنفذي العمليات والبيوت التي تؤوي المطاردين، بل انتهج الاحتلال في هذه العملية هدما هندسيا هدفه إحداث تغييرات بعيدة المدى في طبيعة المخيم، فعمل على شق الطرق العريضة غير المتوائمة مع هوية المخيمات، وهدم المنازل بطريقة جعلت كل مجموعة من المباني مجمع سكني مستقل، وأزال ركام معظم المباني المهدومة. فارضا واقعا جديدا داخل المخيمات، إذ أصبحت مكان المباني المهدومة شوارع عريضة باتجاهين، وبات مكان الأزقة الضيقة التي جرفتها الآليات طرقا تشق المخيم من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه.
انتهج الاحتلال في هذه العملية هدما هندسيا هدفه إحداث تغييرات بعيدة المدى في طبيعة المخيم.
وفي الحالة الفلسطينية بشكل عام، وحالة المخيمات بشكل خاص، يعد الهدم الهندسي الذي يجري تنفيذه إزاء هذه العملية أخطر أنواع الهدم، إذ أن الشعب الفلسطيني بعمومه اعتاد على مقارعة الاحتلال منذ قرابة قرن من الزمن، وبعد كل عملية هدم كان الفلسطيني يرسل رسائل رمزية عن صموده عبر نصب خيمة فوق ركام منزله المهدوم، لكن الواقع الجديد الذي يعمل الاحتلال على رسمه داخل المخيمات فيما لو انسحب، فضلا عن قرارات منع البناء، سيعيق عملية البناء أيضا، وذلك لأن معالم المخيمات تغيرت بشكل شبه كامل، ومن يعود ليبني من جديد سيصطدم أنه سيبني منزله على شارع رئيسي، أو دوار،أو ربما في فناء مربع سكني مُستحدث.

هذا الواقع الذي يخلقه الاحتلال داخل المخيمات، يهدف بشكل رئيسي إلى محو رمزية المخيم الضيق المكتظ بالسكان، وبالتالي قتل صورة مقر الانتظار المؤقت حتى العودة، إلى جانب أهداف أخرى لا تقل خطورة عن الهدف الرئيسي، إذ أن الواقع الجديد و الشكل الهندسي الذي أضحت عليه المخيمات، سيمنع ما لا يقل عن نصف سكان المخيمات من العودة إليها، سواء بسبب قرارات منع إعادة الإعمار، أو بسبب الشكل الجديد للمخيم الذي يعيق إعادة الإعمار فيما لو ألغي قرار منع إعادة الإعمار. مما سيخلق مشكلة لها جانبين، الجانب الأول يتعلق بالمخيم وطبيعته التي حافظ عليها الفلسطيني منذ النكبة، التي ستُضرب في مقتل عبر تشتيت قرابة نصف هؤلاء النازحين وتفريقهم بين المدينة والقرى، والجانب الآخر، أن هذا التفريق يهدف إلى تذويب هوية اللاجئ الثائر بطبيعته على الواقع، الذي يذكر العالم بشكل دائم بالنكبة وحق العودة.
هذه المعضلات يضاف إليها معضلة أخرى لا تقل خطورة، تتعلق بالنزاع والشقاق الذي يراهن الاحتلال على خلقه بين من سيبقى بالمخيم ومن سيرحل، وبين من سيبقى ومن سيبقى أيضا، هذه المعضلات التي يعول الاحتلال أنه قَدَحَ شرارتها، في ظل تغيير معالم المخيم بشكل شبه كلي.
الاحتلال قد اجتاح هذه المخيمات لإحداث تغييرات استراتيجية، وليس مجرد دخول عسكري تكتيكي.
وبالتالي حتى لو انسحب الاحتلال من مخيمات جنين وطولكرم، فإنه قد صنع معضلات على المستوى الاستراتيجي والرمزي والديمغرافي، يهدف من خلالها إلى خلق واقع جديد في هذه المخيمات، بحيث لا تعود مخيمات بمعناها الحقيقي لا من حيث الحيز الجغرافي ولا الحيّز البشري، بالإضافة إلى جعل هذه المخيمات نموذجا معذبا أمام بقية المخيمات والقرى، ويظهر ذلك جليا في قرارات منع إعادة الإعمار، ما يعني أن الاحتلال معنيّ ببقاء صورة المخيم المدمر كما هي، أو في إعلانه أن وحداته الهندسية جهزت مخططات مشابهة لمخيمات نور شمس وطولكرم وجنين، وفي 18 مخيما آخرا في الضفة الغربية.
المحصلة وإزاء ما يرشح عبر وسائل الإعلام العبرية، خاصة بعد زيارة المسؤول الأمريكي لمخيم نور شمس، حول انسحاب وشيك للاحتلال، هذه مرافعة مصغرة تقول أن الاحتلال قد يسحب أدواته العسكرية من المخيمات قريبا، لكنّه سيترك خلفه أدوات تعمل على استمرارية الأزمة لأطول فترة ممكنة، وهو لبّ هذه العملية العسكرية منذ الأسابيع الأولى لها.