تساؤلات الدعم والإسناد: دعوة لمجتمع الضفة لأن يتدارك خطأه
10 يوليو 2025
لم يبحث أهل غزة في حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ضدهم منذ أزيد عن عشرين شهراً عن مأوى آمنٍ فقط، أو لقمة قليلة يُسكت الآباء بها مطالبات صغارهم بالمزيد، وغيرها من الاحتياجات الأساسية التي أصبحت أغلب ليالي هذه الحرب الضروس عزيزة وصعبة المنال، بل أيضاً كانوا يبحثون عن مواقفٍ يطببون معها جروحهم الغائرة، وينشلون بها إحساسهم الموجِع بالخذلان، ويمنون أنفسهم رغم كل المعطيات المُخيّبة أن لهم أخوة، ومن الطبيعي بمكان أن يكون أقرب الناس للمعاتبة القاسية هم الفلسطينيون أنفسهم ومنهم أهل الضفة الغربية.
إننا لا نقصد بهذا السؤال ثلاثة أشياء؛ الأول هو الإسناد العسكري أو العملياتي المتعلق به، إذ أن ظروف ذلك مرهونة بعدم انكشاف تطور الخلايا التي دربتها فصائل غزة في بعض مدن ومخيمات الضفة، لا سيّما شمالها، بحكم سيطرة الاحتلال الكاملة على تلك المناطق استخباراتياً ومحاصرتها جغرافياً، إضافة إلى توّفر حاضنة وطنية وأمنية فلسطينية تترعرع بين ذراعيها وتشب مشبها، وهذا ما لم تهتدي له الحالة الفلسطينية بعد انتهاء انتفاضة الأقصى وسنوات لحقتها، وحملت العديد من تداعيات تلك الانتفاضة حتى كادت تنتهي بداية العام 2005.
والشيء الثاني هو إثارة الفتنة؛ إن المراجعة الداخلية ضرورة من ضروريات الوحدة الوطنية، وليس عيباً أن نُجري تقييماً شاملاً لأحوالنا الفلسطينية، وأولها أسباب غياب الضفة عن دور يمكن أن نصنفه في خانة مؤازرة غزة، حتى وإن سكتت الأقلام عن ذلك ستبقى ذاكرة الفلسطينيين في غزة تعيد للصورة الذهنية الجمعية السؤال المؤنِب، أين موقع الضفة من جُرحنا؟!
حتى وإن سكتت الأقلام عن ذلك ستبقى ذاكرة الفلسطينيين في غزة تعيد للصورة الذهنية الجمعية السؤال المؤنِب، أين موقع الضفة من جُرحنا؟!
والشيء الآخر الذي لا نشركه بمفهوم الإسناد؛ هو نهج التباكي عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، ورغم حقيقة هذا التألم وأصليته، إذ أن حال غزة لم يترك مجالاً دون الانهيار النفسي، والإحساس بالعجز لدى باقي الفلسطينيين سواء في الضفة الغربية أو القدس والداخل المحتل والشتات. لكن هذا الإحساس لم يحوله الجمع الغفير في الضفة إلى صيغة عملية مكثفة وقوية؛ ترتقي فيها أحاسيس الحزن هذه إلى مساندة تحفظ فيها الضفة ومؤسسات مجتمعها المدني وسلمها الأهلي ما تبقى من ماء الوجه، إن العجز في الحالة الفلسطينية واقعياً وحقيقياً في بعض المطارح، لكنه أيضاً مساحات للاختباء والتبرير في أحيانٍ أخرى.

إن أكثر القطاعات المستهدفة في قطاع غزة خلال حرب الاحتلال الشرسة هو القطاع الصحي، حيث قتل الاحتلال 1411 من العاملين ضمن الطواقم الطبية وفق مركز الإعلام الحكومي في غزة، و362 كادراً طبياً اعتقلوا وتم تعذيبهم وقضى منهم ثلاثة أبرزهم الطبيب عدنان البُرش الذي يعد أشهر جراحي القطاع، و283 مشفى ومركزاً صحياً دُمر أو أُخرِج عن الخدمة.
كل ما سبق ولم نرَ من نقابة الأطباء الفلسطينيين أي سلسلة خطوات احتجاجية على الأرض، لربما اعتصم بعض الأطباء مرة مرتين، ضمن وقفات خجولة ودافعة لطأطأة الرأس.
لقد كان بالإمكان الذهاب إلى ما هو أبعد من المساندة عبر الاحتجاجات والمسيرات والتظاهر وغيرها من رمزيات المناصرة، ألا وهي إطلاق حملة دولية يُحاصَر فيها الاحتلال في كل أرجاء الأرض.
كما لم يتوقف الأطباء في كافة المشافي الفلسطينية دقيقة صمت واحدة على أرواح زملائهم في غزة، ولم يقع بين أيدينا أي مراسلات داخلية بين مشافي الضفة وإدارة مراكزها الطبية حول حوار بصوتٍ عالٍ عن الخطوات الواجب اتخاذها لإسناد القطاع الصحي المنهار في غزة.
إننا نسأل نقابة الأطباء التي تقع مقراتها في القدس وعمان، لماذا اختفى نبضكم وتحوّلتم إلى الموت السريري؟!
لقد كان بالإمكان الذهاب إلى ما هو أبعد من المساندة عبر الاحتجاجات والمسيرات والتظاهر وغيرها من رمزيات المناصرة، ألا وهي إطلاق حملة دولية يُحاصَر فيها الاحتلال في كل أرجاء الأرض.
تقوم هذه الحملة الدولية على مراسلة كل نقابات الأطباء في العالم، ومنظمة الصحة العالمية وغيرها من المؤسسات الفاعلة في مجال الصحة حول العالم، وجعل هذه العناوين في حالة إنشغال دائم بالوضع الكارثي الذي آل إليه وضع القطاع الصحي في غزة.
لم تستثمر أي مؤسسة فلسطينية طبية أو مشتغلة بالقطاع الصحي، عظمة الحالة الاستثنائية التي خلقها مدير مجمع الشفاء الطبيب حسام أبو صفية كما حال كل أطباء غزة
ومن الضرورة بمكان أن يُفضى هذا الإنشغال المدروس والمقصود بخطوات قد تدفع الاحتلال لإرخاء قبضته قليلاً عن عنق القطاع المخذول من الجميع.
لم تستثمر أي مؤسسة فلسطينية طبية أو مشتغلة بالقطاع الصحي، عظمة الحالة الاستثنائية التي خلقها مدير مجمع الشفاء الطبيب حسام أبو صفية كما حال كل أطباء غزة، والذي صمد وحيداً إلى جانب المرضى أولاً ثم النازحين ثانياً، ثم تمسك بالمشفى ثالثاً وأخيراً، لقد كان يقول عبر بقائه حتى آخر لحظة قبيل اعتقاله، لا أريد لهذا المكان أن يختفي.
مرت صورة أبو صفية يدفن نجله ويصلي عليه، وهو أمام الكاميرات مُصاب، وهو يعالج الناس بأدنى الإمكانيات، وهو محاصرٌ مخذول، وهو وحيد ذاهب إلى قدر الاعتقال.. مرت كل الصور دون أن نسمع أن نقابة الأطباء الفلسطينية أجرت اتصالاً واحداً مع اي جهةٍ روسيةٍ مثلاً، تسألها ماذا نفعل؟! ويرتبط ذلك بحكم أن الطبيب أبو صفية يحمل الجنسية الروسية والأمثلة كُثر.
بالتأكيد هناك خطوات أُخرى لا يعرف فاعليتها أكثر من المسجليَن لدى نقابة الأطباء الفلسطينية، وسيبقى السؤال لحوحاً متسمراً أمام أبواب آلاف الأطباء في الضفة، لماذا لم تفعلوا أي شيء من أجل زملائكم في غزة؟!
إن مشيئة الحياة لا تتوقف حتى في ظل الحرب، وليس مطلوباً من أحد أن يموت حتى يقرر آخرون أنه فعل ما يتوجب عليه، لكن الصورة القادمة من أسواق أغلب مدن الضفة لا سيما خلال أشهر الحرب الأولى، كانت شديدة الوطأة على فاقدي الأحبة وفلذات الكبد وعزيزي الروح في غزة.
كيف يمكن إقناع من يودعون كل أفراد عوائلهم أن ذلك يأتي على مساواة أهمية حملات التخفيض التجارية المهولة التي شهدتها أسواق الضفة مطلع الحرب، إن موت الأحباب لا يعوَّض لكن بضاعة التاجر يمكن تعويضها.
تشي مسلكيات أغلب التجار في الضفة والذين فضلوا إنقاذ تجارتهم من الكساد على إنقاذ فلسطينيتهم، بالانسلاخ الخطير للفلسطيني عن لُحمة قضيته، ونجاح الاحتلال أولاً والانقسام ثانياً في خلق فجوة بين الفلسطينيين تبعاً لمواقعهم الجغرافية، فما يحصل في غزة لا يؤثر على كل مناطق الضفة، وعليه لا ضير أن تستمر الحياة.
تتابع التساؤلات نفسها، لماذا لم يفعلها تجار الضفة! لمَ لمْ يضربوا بالحائط مصالحهم التجارية وتنازلوا عن أرباحهم!
آلاف الشركات والمصانع والمحال التجارية في الضفة، لم تطلق ولو حملة واحدة منظمة لتحويل جزء من منتجاتها شهرياً؛ لتنضم لقافلة المساعدات الإنسانية المتوجهة لغزة، حتى وإن لم يسمح الاحتلال في بداية الحرب لدخولها القطاع، حتى وإن سرقتها العصابات، المهم أن يفعل أحد من هؤلاء "التجار" شيئاً تتذكره غزة عندما تقوم من حوض دمائها سالمة غانمة.
لم يقترح أي تاجر أو رجل أعمال فلسطيني أن تُفتَح بعض أسواق الضفة خلال أوقات معينة للحاجيات الضرورية، ثم تُقفَل كما قُفلت بفعل الحرب مثيلتها في غزة!
في السوق غذاءٌ ودواء ولا ينبغي لأحد منهما أن ينقطع عن فم الناس، لكن لم استمرت المطاعم في استقبال زبائنها وكأن شيئاً لم يكن! ولماذا يحضر الزبائن أصلاً، ففي المطعم ترفيه وانبساط من المعيب أنهما حضرا بينما غزة يجوَّع أطفالها وتراق دماء خيرة أبنائها!
لم يقترح أي تاجر أو رجل أعمال فلسطيني أن تُفتَح بعض أسواق الضفة خلال أوقات معينة للحاجيات الضرورية، ثم تُقفَل كما قُفلت بفعل الحرب مثيلتها في غزة!
لقد فعلتها الضفة خلال جائحة كورونا التي لم تقتل أكثر من 60 ألف فلسطيني، لماذا لم تفعلها من أجل غزة؟!
تكثر الأمثلة على خذلان الضفة لغزة وليس حصراً تعريجنا على دور الأطباء ونقابتهم ولا التجار وبضاعتهم، إنما يؤكد ما سبق وغيره مما لم يُذكر أن لا بوصلة فلسطينيّة، وأن صحراء التيه كبرت مساحتها أمام أهل الضفة ونستثني جميع المدن والمخيمات والقرى التي لم تنجُ من فعائل الاحتلال وتنكيله طيلة شهور الحرب، وأن العديد من مؤسسات المجتمع المدني نزل رصيدها الأخلاقي إلى ما دون الصفر، ويبدو أنها خشت على نفسها الإغلاق أو التهديد من قبل الاحتلال، على أن تسجل مواقفاً واضحة يمكن احترامها أو حتى الإعجاب بها.
إننا لا نلوم جهة بعينها ولا فرداً باسمه، إنما ندعو إلى أن يستشعر الفلسطيني في الضفة خطورة تخليه عن أصليّته، فمنذ متى يموت أخيه ويهرع هو للاستفادة من التخيفضات على الملابس والعطور وأواني الطبخ! لقد مارسنا طيلة السنوات الماضية دوراً في إطار المحاولات لتغطية هذه الشروخ والعيوب، وحاولنا القول مراراً مؤكدين وحدوية الفلسطينيين في كل الأماكن، لكن غطائنا تمزق والعيوب كثرت وهامت على السطح، فمتى يستقيم حالنا؟