تصعيد أمني وتمدد استيطاني.. تداعيات حرب الإبادة على الضفة
10 يوليو 2025
في ظل انشغال العالم، والقنوات الإعلامية المحلية والشرق أوسطية والعالمية، بالحرب في غزة والإبادة المستمرة للشجر والحجر والبشر، ووسط الأزمات الاقتصادية بين الدول العظمى، والحروب الجانبية بين القوى الإقليمية، وغيرها من التطورات اليومية؛ تستغل ضباع العصر هذه الفوضى لالتهام المزيد من أراضي الضفة الغربية، ومواصلة عدوانها المتصاعد منذ أكثر من 80 يوماً، لاسيما في شمال الضفة، وتحديداً محافظتي طولكرم وجنين.
تشهد هاتين المحافظتين وجوداً عسكرياً متواصلاً، ترافقه عمليات تهجير ونزوج قسري، وهدم ممنهج للمنازل والأحياء. ويعزى هذا التصعيد إلى الحساسية الجغرافية للمحافظتين، لقربهما من جدار الفصل العنصري، إذ تشكل طولكرم، وجنين ونابلس، مثلث شمال الضفة الأقرب إلى المدن المحتلة، حيث تحيط به من الشمال الناصرة وحيفا، ومن الغرب الخضيرة ونتانيا، المقامتان على امتداد طولكرم وأراضي حيفا. علاوة على ذلك، فإن وجود الشباب المقاوم، رغم امتلاكه لأبسط وسائل الدفاع عن أرضه ومخيماته، جعله عرضة للاجتياحات والاغتيالات، في محاولة للاحتلال للقضاء على ما يعتبره مصدراً مستمراً للقلق الأمني.
يضاف لما سبق وصول اليمين المتطرف إلى سُدة الحكم وأوصال القرار في دولة الاحتلال، وعلى رأسه وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش. هذا التحول السياسي عمّق من خطورة المشهد، نظراً لسعي كلا الوزيرين لتعميق الاستيطان وتغذية عنف المستوطنين، ورفع وتيرة الإبادة ضد المدنيين في غزة. فضلاً عن محاولات فرض رؤية متطفة تجاه المسجد القدس والمسجد الأقصى، من خلال تكثيف الاقتحامات وتنفيذ الطقوس الدينية داخل الحرم القدسي، في إطار سعي محموم لتكريس واقع جديد يخدم مشروع الاحتلال الأيدولوجي.

تشهد الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية تآكلاً متسارعاً بفعل السياسات الاستيطانية "الإسرائيلية"، التي تسعى لتحويل محافظات الضفة إلى مربعات سكنية صغيرة أو مستعمرات محدودة تفتقر إلى الموارد والحماية والسيادة، عبر نهج يسعى لفرض واقع جديد يعرف بـ "المجتمع الكولوني" أو "الكنتونات"، حيث يعزل الفلسطينيون في مجتمعات ضيقة ومقطعة الأوصال، ما يؤدي إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني وتجزئة أسواقه، ومنع إقامة بنية تحتية أو تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية.
تهدف هذه السياسات إلى طمس الوجود الفلسطيني كمجتمع متكامل وتفكك أواصره، وإلغاء أي إمكانية مستقبلية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة على أراضي الضفة الغربية أو فلسطين عامة.
ومن بين أخطر المشاريع التي دشّنتها حكومة الاحتلال مؤخراً، هو "طريق السيادة" أو باسمه الآخر الذي يرتدي قناع الوداعة "نسيج الحياة"، هذا الطريق ليس مجرد شارع لربط المستوطنات، بل هو مخطط استراتيجي يشقّ قلب الضفة الغربية بهدف ربط مستوطنة "معاليه أدوميم" بالقدس الغربية، وبذلك يُفصل شمال الضفة عن جنوبها. وبطبيعة الحال يُمنع الفلسطينين من استخدامه ويُجبرون للالتفاف عبر نفق طويل تحت أعين ومراقبة الاحتلال، كما سيمنعهم هذا الطريق من دخول القدس.

في السنوات الأخير، لاسيما عامي الإبادة، واجه الفلسطينيون في الضفة الغربية أحد أقسى أشكال الاستهداف الممنهج، تمثل في هدم البيوت والأحياء والمحال التجارية، متعدياً لهدم الحياة بكل تفاصيلها. لم تكن هذه السياسة طارئة، بل مارستها يلطات الاحتلال منذ لمعاقبة أهالي الشهداء والأسرى،وثني المجتمع عن احتضان المقاومة، عبر ضرب الحاضنة الشعبية وتفكيكها تمهيداً لتدجين الشعب ككل.
يمنع الفلسطينيون من البناء دون تصريح من جيش الاحتلال، على الأراضي المصنفة "ج" الخاضة للسيطرة "الإسرائيلية" الكاملة وفق اتفاقات أوسلو، في حين لا تتجاوز نسبة الموافقة على هذه التصاريح 5 %. ونتيجة لذلك، ما يضطر السكان للبناء دون ترخيص، لتقوم آليات الاحتلال بهدم مبانيهم أو إجبارهم على هدمها بأنفسهم، إذ تشير التقديرات إلى أن نحو نحو 200 مبنى يتم هدمه سنويا في هذه المناطق.
خلال 77 يوما من الحصار، أكثر من 40 ألف فلسطيني أجبروا على مغادرة منازلهم في مخيمي طولكم ونور شمس، ومخيم جنين.
أما في المناطق المصنفة "أ" الخاضعة للسيطرة الفلسطينية وفق أوسلو، فالاقتحامات وعمليات الهدم لا تنتهي، بل تفاقمت منذ مطلع العام الجاري مع إطلاق الاحتلال عملية عسكرية في شمال الضفة، والتي تعتبر الأعنف منذ الانتفاضة الثانية، فقد أجبر أكثر من 40 ألف فلسطيني على مغادرة منازلهم في مخيمي طولكم ونور شمس، ومخيم جنين، بعد أن أفرغت هذه المخيمات من سكانها تقريباً مع احتمالات عدم عودتهم.
خلال 77 يوماً من الحصار، تم تهجير نحو 25 ألف فلسطيني من سكان مخيمي طولكرم ونور شمس،أي ما يعادل 90% من من مجمل سكان المخيمين، تزامناً مع حملات مداهمة وتدمير طالت ما يزيد عن 675 مبنىً ومحلاً تجارياً. بالإضافة إلى تخريب شبكات المياه والكهرباء والانترنت، وتدمير شوارع المخيمات ومحيطها، في مشهد أقرب إلى محو لكافة مقومات الحياة.
أما جنين، فكانت على موعد مع دمار مشابه، فقد طال التدمير أحياءً سكنية ومنشآت تقدر بأكثر من 3,350 منشأة، وسط غارات جوية متكررة بلغ عددها 15 غارة خلال الحملة الأخيرة. وتشير التقديرات إلى أن الخسائر الاقتصادية في المدينة ومخيمها تجاوزت 310 ملايين دولار خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، في ظل شلل تام للحياة التجارية والتعليمية، واختفاء حاد في المواد الفذائية والاحتياجات الأساسية، لاسيما للأطفال.
تغيب التغطية اليومية عن أإلب الحداق في المخيم، ولا تنقل الشاشات حجم المأساة كما هو على الأرض، إلا أن المخيم لم يعد كام عرفه الفلسطينيون، بعد أن طالته عمليات التجريف في جريمة تتجاوز الهدم إلى محوٍ ممنهج للوجود.

تضمنت العملية العسكرية التي شنها الاحتلال على شمال الضفة، حملة اعتقالات واسعة النظاق، إذ بلغت في طولكرم أكثر من 278 حالة، ومثلها تقريباً في جنين. فضلاً عن عمليات تحقيق ميداني قاسية، وتحويل المنازل إلى ثكنات عسكرية بعد طرد سكانها منها. والأكثر شراً تمثل في عمليات إعدام ميدانية وصفت بالوحشية. وكان نادي الأسير الفلسطيني صرّح مؤخراً، بأن جيش الاحتلال اعتقل 800 فلسطيني في الضفة الغربية خلال شهر مارس/ آذار 2025، بينهم 84 طفلاً و18 سيدة.
كما أشارت مؤسسات الأسرى إلى تصاعد غير مسبوق في أوامر الاعتقال الإداري، إذ تحتجز إسرائيل 3498 معتقلاً إدارياً دون أي محاكمات أو تُهم، بينهم أكثر من 100 طفل، من أصل 16.400 معتقل فلسطيني منذ حرب الإبادة، ولا يشمل هذا العدد معتقلي غزة الذين تُقدّر أعدادهم بالآلاف.
تنتشر الحواجز والبوابات الحديدية في الضفة الغربية بشكل كثير ومروع، حيث يستخدمها الاحتلال كأداة لخنق الضفة وتمزيق الجغرافيا الفلسطينية، وتقطيع أوصال المدن والقرى، وذلك بحصار كل مدينة بسلسلة من البوابات والحواجز الثابتة أو المفاجئة (الطيّارة). وتشير التقارير إلى أن عدد البواوبات والحواجز العسكرية في الضفة الغربية بلغ أكثر من 1000 بوابة وحاجز عسكري، تفتت الطرق وتخنق 3 مليون فلسطيني يعيشون في كونتونات منفصلة عن بعضها البعض. ففي 2024 أضاف الاحتلال 26 بوابة حديدية، فيما أضيف 19 بوابة جديدة خلال حتى شهر إبريل/ نيسان 2025، ووفق الخطط "الإسرائيلية" يتوقع مضاعفة هذا الرقم بنسبة تصل 290% مع نهاية العام الحالي.
عدد البواوبات والحواجز العسكرية في الضفة الغربية بلغ أكثر من 1000 بوابة وحاجز عسكري، تفتت الطرق وتخنق 3 مليون فلسطيني يعيشون في كونتونات منفصلة عن بعضها البعض.
يستخدمها الاحتلال الحواجز لتعزيز التوسع الاستيطاني، فضلاً عن كونها إحدى صور الفصل العنصري. إلى جانب مراقبة الفلسطينين وتقييد حركتهم بين المدن والقرى، مما يؤدي إلى ارتفاع نسب البطالة، وتدني مستوى الأجور وتعطيل عجلة الاقتصاد.
يقضي المواطن الفلسطيني ساعات طِويلة أمام هذه الحواجز، حيث يتعرض للتفتيش المهين أو الاعتقال أو التنكيل، في سياسة تهدف إلى انهاك الحياة الفلسطينية اليومية.
هذا كله بالطبع، يؤثر على الاقتصاد وحركة البضائع، إذ تشير التقديرات إلى خسائر شهرية تقدّر بنحو 62 مليون شيكل للاقتصاد الفلسطيني، نتيجة تأخير الشاحنات وتلف البضائع، وارتفاع تكاليف النقل والانتاج. أما الخسارة الأثقل، فتتمثل في الوقت المهدور، حيث يخسر الفلسطينيون قرابة 4.2 مليون ساعة عمل شهرياً، بسبب اضطرارهم لسلوك طرق التفافية طويلة، هرباً من الإغلاق والحصار.

ولأول مرة، منذ اتفاقية أوسلو، أنشأت سلطات الاحتلال ما يزيد عن 8 بؤر استيطانية جديدة في المناطق المصنفة "ب"، وشرعنت 5 مستوطنات إضافية، إلى جانب فصل 13 مستوطنة والاعتراف بها كمستوطنات مستقلة. هذه الإجراءات، التي تمثل خرقاً للقانون الدولي، جائت ضمن خطة مدروسة تهدف إلى ترسيخ الوجود الاستيطاني وتوسيعه على حساب الأرض الفلسطينية.
وفي سياق متصل، اعترفت حكومة الاحتلال بأثر رجعي بوجود 70 بؤرة استيطانية عشوائية، وقدمت لها الدعم المالي لتوفير البنى التحتية والخدمات الأساسية، كما شقّت طرقا بطول يزيد عن 114 كيلومترا بهدف ربط المستوطنات ببعضها البعض وتعزيز التواصل الجغرافي بينها. أما على صعيد البؤر الرعوية، فقد سيطرت إسرائيل على ما يقدّر بـ 786 ألف دونم من أراضي الضفة، أي ما يعادل 14% من مساحتها، لصالح مشاريع استيطانية رعوية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه البؤر، التي تديرها مجموعات استيطانية متطرفة مثل "شبيبة التلال"، باتت تمثل أداة طرد فعالة للفلسطينيين، إذ تعرض أكثر من 60 تجمعاً رعوياً فلسطينياً لعمليات تهجير قسري، وأقيمت فوق أنقاضها نحو 100 بؤرة رعوية، بحماية مباشرة من جيش الاحتلال، في مشهد يعكس تواطؤ المؤسسة العسكرية مع المشروع الاستيطاني.
سيطرت إسرائيل على ما يقدّر بـ 786 ألف دونم من أراضي الضفة، أي ما يعادل 14% من مساحتها، لصالح مشاريع استيطانية رعوية.
وتضاعفت أعداد المستوطنين في الضفة الغربية ثلاث مرات منذ عام 1995، ليصل عددهم إلى نحو 770 ألفاً بحلول عام 2024، وهو رقم يشير إلى التحول الجذري في طبيعة التواجد السكاني والسيطرة المكانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
هذا التمدد الاستيطاني تزامن مع موجة من الاعتداءات المنظمة التي يشنّها المستوطنون على القرى والبلدات والتجمعات الرعوية الفلسطينية. تتنوع هذه الهجمات بين حرق المنازل والمركبات وأشجار الزيتون والاعتداء المباشر على المواطنين بالأسلحة النارية أو البيضاء، دون محاسبة أو تدخل من سلطات الاحتلال.
ومن أبرز محطات هذا التصعيد الوحشي، جريمة اختطاف وتعذيب وقتل الفتى محمد أبو خضير في القدس عام 2014، ثم تبعتها جريمة إحراق منزل عائلة دوابشة في نابلس عام 2015، والتي أسفرت عن استشهاد العائلة بالكامل، باستثناء طفل وحيد نجا بحروق بالغة.
تتقاطع كافة الممارسات الوحشية لجيش الاحتلال ومستوطنيه عند هدف واحد، وهو التهجير الكامل للفلسطينيين من أرضهم، وتصفية مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة. ولا يمكن ردع هذه الخطوات الجنونية المتسارعة، إلا بوقفة موحدة ودعم كلي للموقف الفلسطيني دولياً وإقليمياً وعربياً كذلك.