بين الرواية والدعاية: قراءة نقدية في إعلان "خلية الخليل" الإعلامي
3 يوليو 2025
في 29 حزيران/يونيو 2025، أعلنت المخابرات الإسرائيلية، المعروفة باسم الشاباك، عن تفكيك ما وصفته بـ"أكبر خلية تابعة لحركة حماس في الضفة الغربية خلال أكثر من عقد". وبحسب بيانها الرسمي، فإن الخلية تضم نحو 60 فلسطينيًا من مدينة الخليل ومحيطها، زاعمةً أنها كشفت مخزنًا للأسلحة، ومواد متفجرة، وبنى تحتية للتخطيط لعمليات مسلحة "كانت على وشك التنفيذ"، على حد وصفها. وأشار البيان إلى أن أحد عناصر الخلية متورط في تنفيذ عملية قُتل فيها أربعة مستوطنين إسرائيليين على مفترق بني نعيم عام 2010، في إشارة إلى محاولة ربط الماضي بالحاضر لإضفاء طابع الاستمرارية والخطر طويل الأمد على المجموعة.
رغم أن ما ورد في البيان لا يخرج عن كونه رواية أمنية إسرائيلية ذات أهداف واضحة، فإن المثير للقلق أن العديد من وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية سارعت إلى نقل الرواية كما هي، دون تمحيص أو مساءلة.
وفي محاولة لتأطير القضية ضمن رمزية سياسية وأمنية، نشر الاحتلال صورًا شخصية لعدد من المعتقلين، وركّز بشكل خاص على الشيخ جمال النتشة، النائب في المجلس التشريعي الفلسطيني، متهمًا إيّاه برئاسة المجموعة وتوجيه عملها من داخل مدينة الخليل.
ورغم أن ما ورد في البيان لا يخرج عن كونه رواية أمنية إسرائيلية ذات أهداف واضحة، فإن المثير للقلق أن العديد من وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية سارعت إلى نقل الرواية كما هي، دون تمحيص أو مساءلة. لم يُطرح أي تساؤل حول مصداقية الأرقام أو التوقيت أو الجهات المستهدفة، بل في بعض التغطيات بدا وكأنّ هذه "المعلومة" نُقلت باعتبارها كشفًا صحافيًا حقيقيًا، أو إنجازًا أمنيًا استثنائيًا يستحق التمجيد، وليس رواية صادرة عن جهة احتلالية ذات سجل طويل في التلفيق الأمني والدعاية السياسية.
لكن هذا الإعلان لم يأتِ في سياق عبثي أو معزول عن الواقع السياسي. فتوقيت الكشف، والأسلوب المسرحي في عرض التفاصيل، والطريقة التي تم بها تقديم "الإنجاز الأمني"، تعكس وظيفة مزدوجة للحدث: أمنية في مضمونها، وإعلامية-نفسية في غاياتها. فبيان الشاباك ليس مجرد توثيق لعملية أمنية، بل هو أداة سياسية توجه رسائل متعددة الأطراف – إلى الجمهور الإسرائيلي، وإلى الفلسطينيين في الضفة الغربية.
وعليه، فإن هذا المقال يسعى للإجابة عن سؤال مركزي: لماذا أعلنت إسرائيل عن "خلية الخليل" في هذا التوقيت؟ ما هي الأهداف الحقيقية لهذا الإعلان؟ وكيف تعامل الإعلام الفلسطيني والعربي مع بيان الشاباك؟ وهل ساهم – بوعي أو دون وعي – في تثبيت رواية الاحتلال، أم شكّل حالة من المقاومة المعلوماتية؟

لم يكن إعلان المخابرات الإسرائيلية عن ما أسمته "خلية الخليل" حدثًا أمنيًا عابرًا، بل جاء محمّلًا برسائل موجهة بعناية، سواء إلى الجمهور الإسرائيلي أو إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية. ففي ذروة التوتر السياسي والعسكري في المنطقة، خاصة بعد مضي قريب السنتين على بدء العدوان على قطاع غزة، تعاني الحكومة الإسرائيلية من تآكل في ثقة الجمهور، ومن تنامي الغضب الشعبي بسبب فشلها في تحقيق "نصر حاسم" أو استعادة الأسرى، فضلًا عن استمرار عمليات المقاومة، سواء في غزة أو الضفة.
الإعلان جاء في هذا التوقيت تحديدًا بهدف تهدئة الشارع الإسرائيلي، الذي يشعر بأن أمنه بات هشًا، وأن قوة الردع الإسرائيلية تتآكل.
يرى الصحفي محمد القيق، أن الإعلان جاء في هذا التوقيت تحديدًا بهدف تهدئة الشارع الإسرائيلي، الذي يشعر بأن أمنه بات هشًا، وأن قوة الردع الإسرائيلية تتآكل. وفي مقابلة تلفزيونية قال القيق إن الرواية التي صيغت بعناية – عن أكبر خلية تم تفكيكها منذ عقد، واعتقال 60 شخصًا، والعثور على متفجرات وأنفاق – ليست إلا تفجيرًا إعلاميًا مقصودًا هدفه بعث الاطمئنان في نفوس المستوطنين. "عندما يكون المستوطن قلقًا، يسمع أن الشاباك اعتقل خلية معقدة تضم عشرات الأشخاص ومتفجرات وخططًا لتنفيذ عمليات... فيرتاح"، يقول القيق، ويضيف: "هذه ليست معلومات، بل رسائل نفسية لإعادة ترميم صورة الأجهزة الأمنية المهزوزة."
وبالمثل، يوضح الباحث ياسين عز الدين أن هذه الروايات الأمنية ليست جديدة، بل تُستخدم بشكل متكرر كوسيلة لإثبات التفوق الأمني الإسرائيلي. لكنّ المفارقة – كما يشير – أن هذا التضخيم يخفي في جوهره خوفًا بنيويًا لدى الاحتلال من تصاعد تيار المقاومة الصامتة، التي لا تعتمد على الاستعراض الإعلامي، بل على العمل التراكمي الهادئ بعيدًا عن الرادار. فإعلانٌ بهذا الحجم لا يعكس قوة حقيقية، بل هوسًا متزايدًا بالمراقبة والتتبع، ومحاولة لاحتواء مشروع مقاوم طويل النفس قد يكون أكبر من قدرات الشاباك نفسه على احتوائه.
يأتي هذا كله في لحظة سياسية حرجة بالنسبة لإسرائيل، حيث تتعثر المفاوضات مع حماس حول التهدئة وتبادل الأسرى، ويُسجّل بطء واضح في التقدم العسكري الميداني في غزة. لذا فإن الإعلان عن إحباط "مشروع مقاوم في الخليل" يشكّل تعويضًا رمزيًا عن الفشل في جبهات أخرى. هو بمثابة رواية انتصار بديلة، لا تحقّق تقدمًا على الأرض لكنها تساهم في صناعة وهم السيطرة أمام جمهور محبط، في الداخل والخارج على حد سواء.
الإعلانٌ بهذا الحجم لا يعكس قوة حقيقية، بل هوسًا متزايدًا بالمراقبة والتتبع، ومحاولة لاحتواء مشروع مقاوم طويل النفس قد يكون أكبر من قدرات الشاباك نفسه على احتوائه.
ولذلك، لا يمكن النظر إلى توقيت الإعلان باعتباره قرارًا تقنيًا أو أمنيًا بحتًا، بل هو فعل سياسي مقصود، محكوم بضرورات إعلامية داخلية، ورغبة دائمة في ترميم الثقة بالجهاز الأمني، وتثبيت سردية أن الضفة تحت السيطرة المحكمة. لكن هذا السرد سرعان ما يتهاوى أمام واقع تتكاثر فيه العمليات الفردية، ويبرز فيه مطاردون لم تتمكن إسرائيل من اعتقالهم منذ شهور.
حين يصبح الإعلام الفلسطيني صدىً لبيان الاحتلال

ربما لم تكن الخطورة الأكبر في بيان الشاباك نفسه، بل في الطريقة التي تعامل بها الإعلام الفلسطيني والعربي مع هذا البيان، حيث تحوّلت كثير من المنصات الصحفية من ناقلٍ للمعلومة إلى مروّجٍ غير واعٍ للرواية الإسرائيلية الرسمية، دون تحقق، ودون الرجوع إلى ذوي المعتقلين أو الجهات الحقوقية، وكأن البيان الأمني الصادر عن الاحتلال يمثل حقيقة قضائية نهائية.
"وأنا كزوجة أبو همام، اللي بنشر عن الخلية غير صحيح ومفبرك، ولا إلو أساس من الصحة. وزوجي كان بالسجن طيلة هالفترة، وأبو همام رجل سياسي عرفته المساجد والمنابر..." هذه كلمات زوجة جمال النتشة، والتي نشرتها عبر صفحتها على فيسبوك. كلماتها الصريحة لم تجد طريقها إلى معظم وسائل الإعلام، ولم تُدرج حتى كرأي مقابل، في ظل اندفاع كثير من الصحفيين والمؤسسات نحو تبنّي رواية الاحتلال.
"كثير من الزملاء تبنوا رواية الاحتلال بحماسة، كأنهم وجدوا خبرًا مثيرًا. رفقًا بالأسرى، فلعلهم لم يعترفوا بشيء. منشوراتكم قد تثبت عليهم تهمة تدمّر حياتهم."
الصحفي فتحي ادكيدك علّق على ذلك بموقف أخلاقي لافت، إذ كتب منشورًا يقول فيه:
"كثير من الزملاء تبنوا رواية الاحتلال بحماسة، كأنهم وجدوا خبرًا مثيرًا. رفقًا بالأسرى، فلعلهم لم يعترفوا بشيء. منشوراتكم قد تثبت عليهم تهمة تدمّر حياتهم."
هذا التحذير الصادق يعكس أزمة الإعلام الفلسطيني، الذي يقف غالبًا بين مطرقة السرعة التنافسية في النشر وسندان الرقابة السياسية أو التحريرية، ما يؤدي إلى تغييب جوهري لمبادئ التحقق المهني، ولصوت العائلات، ويحوّل كثيرًا من التغطيات إلى نسخ معدّلة لغويًا فقط من بيانات الاحتلال.
في كثير من التغطيات، لم تُستخدم عبارات تحفظية من نوع "يزعم الاحتلال" أو "ادّعى الشاباك"، بل ظهرت العناوين بصيغ تقريرية حاسمة:
"تفكيك خلية"، "إحباط عملية"، "اعتقال مجموعة تابعة لحماس"، "الكشف عن شبكة خطيرة"...
وهي صيغ تمنح الشرعية الأخلاقية والقانونية الكاملة لرواية الاحتلال، وتُسهم – سواء عن قصد أو جهل – في تثبيت التهم على الاسرى قبل أن تُعرض ملفاتهم على أي محكمة، وفي أحيان كثيرة دون أن تُعرض أصلًا.

يُحاجج البعض بأن المسألة لا تتعلق بخلية حقيقية أو وهمية، بل بـ"سردية" تبنيها إسرائيل، وتُروّج لها إعلاميًا، لغايات نفسية وأمنية.
ويضيف عز الدين أن بعض أفراد هذه المجموعات هم من نشطاء انتفاضة الأقصى، مثل مجموعة الشهيد نشأت الكرمي، ما يعني أن هناك استمرارية حقيقية في مشروع المقاومة، تمتد عبر الأجيال، رغم الاعتقال والتهجير والملاحقة.
الخلية، إذًا، ليست مجرد خبر أمني، بل جزء من معركة الرواية، حيث تسعى إسرائيل لرسم صورة الضفة كساحة خاضعة، ومراقبة، وعقيمة أمنيًا.
الخلية، إذًا، ليست مجرد خبر أمني، بل جزء من معركة الرواية، حيث تسعى إسرائيل لرسم صورة الضفة كساحة خاضعة، ومراقبة، وعقيمة أمنيًا.
لكن استمرار العمليات الفردية، ووجود مطاردين منذ شهور – مثل منفذ عملية الشاكوش في "كدوميم" – يُظهر أن هذه السردية مضطربة ومهزوزة، وتحتاج دائمًا لإعادة ضخّ "قصص انتصار" وهمية لتبقى واقفة.
تكشف قضية "خلية الخليل" عن أكثر من مجرد حملة اعتقالات. هي أداة دعائية إسرائيلية متكررة، تُستخدم لضبط الداخل الإسرائيلي، وردع الفلسطينيين، وإعادة إنتاج وهم السيطرة الأمنية في الضفة الغربية.
لكن الأخطر، أن بعض الإعلام الفلسطيني والعربي، إما شارك في هذا التثبيت، أو سكت عن الرواية البديلة، فتُركت العائلات وحدها تصرخ، وتُركت الرواية الشعبية تقاتل وحدها على هامش نشرات الأخبار. في زمن الروايات المتصارعة، ليس الإعلام مجرد ناقل، بل هو ميدان معركة بحد ذاته. ومن يصدّق الشاباك بلا سؤال، يُصبح جزءًا من أجهزة الاحتلال، حتى لو عن غير قصد.