النكبة مجددا: التاريخ الذي يُعيد نفسه..مع القليل من التحديثات
22 يونيو 2025
لا يُخفي الأرشيف الفلسطيني قصة بلدة قاقون - شمال غرب مدينة طولكرم- التي تعود نشأتها إلى العصور الرومانية، واختبار سكانها المبكر جدًا إلى طموحات الحركة الصهيونية في التوسع، تحت مظلة الحماية البريطانية، بلا سلاح، بلا خيارات، فقط الخوف والمجهول، الكثير منهما.
فمنذ بداية ثلاثينيات القرن المنصرم، ومع غرز مستوطنتي غان شموئيل، وعين هاشوفيط، حول البلدة التي اشتُهرت بإنتاجها الشهي من البطيخ والخضروات والحمضيات، بدأ سُكانها الفلسطينيون يتعرضون لاعتداءات متكررة، تراوحت بين سرقة أراضيهم الزراعية تدريجيًا لصالح توسعة المستوطنتين، واعتداءات على مزارعيها خلال عملهم بالحقول، واختطاف بعضهم وقتل بعضهم الآخر، وسرقة محاصيلهم، حتى وصل الأمر إلى تعرض البلدة لهجمات مسلحة من اليهود، تحت حماية جيش الانتداب البريطاني ووحداته العسكرية.

جميعنا يعلم نهاية الحكاية التي اختُتمت في 1948، ربما نجهل بعض التفاصيل، مثل شجاعة الكتيبة العراقية التي تمترست حول البلدة، وخاضت معركة ضارية وصلت حد التراشق بالقنابل اليدوية والتطاعن بالحراب والسكاكين مع المستعمرين، حتى استُشهد جميع أفرادها، أو مثل القصف المدفعي والجوي الشديد للبلدة والذي لم يُبق منها سوى آثارٍ صليبية ومملوكية، أو مثل اسم المستوطنة التي أقيمت على أراضيها، بعد تدميرها وتهجير أهلها بالكامل، واسمها بالمناسبة "معانيت".
ليست القاقون قصة بلدة فريدة في التاريخ الفلسطيني، بل إنها تتشارك وحدة الألم والمصير مع أكثر من 500 بلدة ومدينة فلسطينية هُجر سكانها ودُمرت مع نكبة 1948، وأكثر من 37 بلدة أخرى طُرد سكانها منها مع نكسة 1967، وأكثر من 54 بلدة إضافية هُجر منها سكانها الفلسطينيون خلال حقبة الحكم العسكري الإسرائيلي لفلسطيني الأرض المحتلة، وأخريات من البلدات والتجمعات القروية والبدوية في النقب والأغوار، وفي قلب الضفة الغربية وأطرافها، يتم اليوم العمل على طرد سكانها منها، نهارًا جهارًا، بأساليب مهجّنة تجمع بين النكبة والنكسة والحُكم العسكري والإدارة المدنية، تحت مسمى واحد عنوانه "الضم" ومضمونه التهجير والطرد.
القاقون ليست استثناءً، الضفة تعيش نكبتها اليوم، بوضوح لا التباس فيه، إذ تبدو الأحداث المتسارعة هناك أقرب ما يكون لتلبد عواصف النكبة ومآلاتها، حين تعاظمت قوة العصابات الصهيونية وهجماتها، وخرجت مخططاتها إلى العلن بصراحة ووضوح، وحين تُرك الفلسطينيون لمصيرهم المجهول بعد سنواتٍ من الاحتضان البريطاني للأحلام الصهيونية، والتيه العربي بين مستعمرٍ قديم وآخر جديد، وحين تشرذمت المصائر بين من ارتضى السلام مع المستعمرة المجاورة، فداسته في ليلة دهماء، ومن امتشق الكفاح بالقليل من السلاح، فأدركت روحه حرب النكبة، وخلدته أشعارها.
اليوم تتعرض الضفة لنسق الهجمات نفسه، وتُستغل الإبادة لتحويل الأنظار عنها، في ما تحضر الحرب باعتباره مبررًا استيطانيًا رغم هامشية حاجة الفكر الصهيوني إلى مبررات.
فخلال 2024 وحدها وصل عدد اعتداءات المستوطنين لأكثر من 16 ألف اعتداء، أسفرت عن استشهاد 10 مواطنين، وإحراق أكثر من 373 منشأة ومزرعة وملكية، واقتلاع أكثر من 14212 شجرة، إضافة لـ 451 استهداف للأراضي الزراعية من تسميم وتخريب، ناهيك عن عشرات الحالات من سرقة المواشي وتسميمها وذبحها، بحسب المؤسسات الحقوقية والرسمية الدولية والفلسطينية.

تُصاغ هذه الاعتداءات تحت بند "الاستيطان الزراعي"، الذي أتاح لعصابات المستوطنين السيطرة على 14% من أراضي الضفة الغربية، وتأسيس 60 بؤرة استيطانية جديدة خلال عام 2024، بانتظار عملية شرعنة حكومية يتعهدها سموتريتش بالحفظ والصون، في مقابل طرد أكثر من خمسين تجمعًا فلسطينيًا معظمها في جنوب الضفة الغربية -هُناك حيث تنخفض عمليات المقاومة الفلسطينية إلى حدها الأدنى-.
وهُنا لا تنطق الأرقام سوى بقمة جبلٍ جليدي من استيطان متصاعد، تُمسك أذرع الحكومة والجيش بطرفه الآخر بمبررات قانونية وبيئية وأمنية وسياسية، في اتفاقٍ معلن على سيطرة شاملة وسعي لتجريف الفلسطينيين من الأطراف _مناطق ب و ج_ إلى مراكز المدن، فخلال الفترة نفسها أصدرت حكومة الاحتلال 903 إخطارًا بهدم منشآت فلسطينية، بينما نفذت 684 عملية هدمٍ فعلي، كما استولت على 46597 ألف دونم تحت مسمى "أوامر عسكرية"، تحقيقًا لحُلمٍ صهيوني شامل يتكفل سموتريتش بين الفينة والأخرى بالترويج له مؤكدًا أن : "2025 هو عام الضم".
فخلال الأشهر الأولى من العام الحالي شهدت هجمات المستوطنين على البلدات والقرى الفلسطينية ارتفاعاً ملحوظاً، تقدر نسبته بنحو 30% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
تختلف أسماء القُرى والبلدات، وتُحال الهجمات إلى عصابات المستوطنات المجاورة، لكن الأسلوب والبوصلة لا يختلفان. بالنسبة لسموتريتش وبن غفير ودانييلا فاييس فالخيار أمام الفلسطينيين "الخضوع أو التهجير أو القتل"، وبالنسبة لليساريين من الجماعات الأخرى هو "المشروع الذي لا بُد من إكماله"، فاليسار واليمين متفقان على الضرورة الأمنية لـ"كنس الفلسطينيين"، أما بالنسبة لأصحاب المكان، فتكاد تختفي خياراتهم، إذ لا كتيبة عراقية هنا أو هناك، ولا وعود عربية بالدعم والإسناد، ولا صوت يزغرد للسلاح ويهلل له، وتبدو ظروف النكبة في عيونهم أوفر حظًا من ظروفهم.
مساء الثلاثاء، ثالث أيام عيد الفطر السعيد، شن 300 مستوطن مسلح هجمة مفاجئة على بلدة دوما جنوب محافظة نابلس، بحماية من جيش الاحتلال، وخلال سويعات أحرقوا منازل ومركبات ومزارع وأصابوا خمسة مواطنين فلسطينيين بعد مهاجمتهم في قلب بيوتهم، وقبل خروجهم اعتقل جيشهم 22 شابًا من البلدة.
وإن كانت دوما تُطرح هُنا مثالًا فإن الهجمات لا تطال بلدة لوحدها، بل تستهدف جميع البلدات التي تحيط البؤر والتجمعات الاستيطانية في عموم الضفة الغربية.
بعدها بأيام تعرضت تسعٌ من قُرى رام الله لسلسة هجمات متكررة من المستوطنين، أسفرت عن استشهاد طفل في بيتين وإصابة أكثر من 40 مواطنًا، بالإضافة إلى حرق عشرات المنازل والمركبات، وقبيل منتصف الشهر كان المستوطنون قد هاجموا عدة تجمعات في الأغوار، واقتحموا بلدة الطيرة في رام الله لمصادرة دونمات زراعية، وحرقوا قاعة أفراح في بلدة بديا قضاء محافظة سلفيت، وصادروا دونمات واسعة من المحافظة نفسها، وأطلقوا رحلات مدرسية لاقتحام بُرك سليمان الأثرية جنوب محافظة بيت لحم، مستخدمين حافلات مصفحة، وهاجموا مدرسة جنوب الخليل فضربوا الكادر التدريسي وكسروا سياراتهم وروعوا الطلاب وأفزعوهم.
وفي العشرين من الشهر الحالي أقدم مستوطنون على اختطاف 3 أطفال تتراوح أعمارهم بين 7 و10 و11 عاما، أثناء لعبهم قرب منزلهم في بلدة بيت فوريك شرق مدينة نابلس، قبل أن يتمكن أهالي البلدة من العثور عليهم مقيدين بأشجار الزيتون فيما تبدو عليهم ملامح الرعب والفزع.
في اليوم نفسه أحرقت جماعات استيطانية أخرى محاصيل زراعية ومساحات شاسعة من الأراضي تعود لفلسطينيين شرق بلدة يطا، لتُقدم لاحقًا جماعات أخرى على دهس قطيع من الأغنام في بلدة واد رحال في جنوب بيت لحم.
أقدم مستوطنون على اختطاف 3 أطفال تتراوح أعمارهم بين 7 و10 و11 عاما، أثناء لعبهم قرب منزلهم في بلدة بيت فوريك شرق مدينة نابلس، قبل أن يتمكن أهالي البلدة من العثور عليهم مقيدين بأشجار الزيتون فيما تبدو عليهم ملامح الرعب والفزع.
هذه الهجمات هي نماذج منتقاة عشوائيًا لفعلٍ منظم متكررٍ ومتزامن يعيشه الفلسطينيون في الضفة الغربية، في تكرارٍ مصغر لسيناريو النكبة، ومكبرٍ لهزيمة نفسية واجتماعية يُدركها فلسطينيو الضفة جيدًا، ويعيشون لحظاتها الأخيرة المتسارعة بينما نُزعت أظافر مقاومتهم مسبقًا بتنسيقٍ أمني مقدس بين سلطة أوسلو وقوات الاحتلال، وتسرب الترهل إلى نفوسهم واستسلم معظمهم إلى مقصلة المحتل بدون تأمل انتظار معجزةٍ تنزع عنهم وطأة الترهل وقذارة الخيانة.
يُدرك فلسطينيو الضفة أن ما هم مقبلون عليه يتجاوز الفصل الأول من الإبادة التي يتعرض لها إخوانهم في قطاع غزة إلى الفصل الأخير من التهجير، وأن ما عجز الاحتلال عن تنفيذه في غزة التي تقاتل وحدها في مواجهة الجوع والتهجير والقصف والحرق والحصار والتواطؤ يقوم بتنفيذه دونمًا بدونم ومربعًا بمربعٍ في الضفة، وأن القادم يبدأ من خطة دالت بصيغة محدثة لا حاجة فيها لتجميل أو إخفاء، وينتهي عند بوابة تهجيرٍ ما تُفتح على دولة ما يتم دفع الفلسطينيين إليها بالعصا والجزرة، والباقي رتوش _فالمجتمع الدولي اعتاد المجازر وألفها_.
يُدرك الجميع اليوم ذلك، الفلسطينيون العرب المجتمع الدولي، قبل السابع من أكتوبر وبعده، خلال الإبادة أو بعدها _إن توقفت_، بسموتريتش أو بغيره، فالنكبة اليوم إلحاحٌ صهيوني يُرى فيها تجديدًا لدماء كيانٍ فسدت دماؤه، وتثبيت لهيمنة اهتزت وتزعزعت، ولم تجد في أركانها ثباتًا حتى اليوم.