أعمق من الكلمة: قراءة في كتاب
26 فبراير 2025
هو كتيب صغير يقع في95 صفحة، ويمكن قراءته في أقل من ساعتين مع قليل من التأمل. موضوعه الأساسي هو: مسألة الحوار. تتضمن موضوعاته المتعددة قصة خيالية ثم تعقيبًا على القصة الخيالية، بما سمّاه الكاتب بالأفق الحواري. وقد وجدت في ثنايا الموضوعات والتعقيبات كلامًا جميًلا وحكيمًا وهادفًا يصيب كبد الحقيقة في ما يتصل بموضوع الحوار والمتحاورين.
وربما يذهب إلى ما وراء ذلك، ويبرز ما وراء الكلمة حقًا، أو ما هو أعمق من الكلمة كما صرح بذلك المؤلف، لذلك قررت أن ألخص الموضوع تلخيصًا عابراً للموضوعات التي أوردها الكاتب بما يخدم فكرة الحوار الدائر، وتحديدًا على منصات التواصل الاجتماعي، ومدى الكارثة التي وصل إليها هذا الحوار، وأسباب ذلك العلمية والنفسية.
أن الإنسان إذا امتلأ صمت، وأغاناه الحال عن المقال، وأنك لست تجد إنسانًا كثير الكلام إلا كان قليل العمل.
وفي ذات السياق تذكرت ما كتبه الراشد في كتابة المسار، حيث تحدث عن "الصمت المليء"، وقد فسره بالقول: أن الإنسان إذا امتلأ صمت، وأغاناه الحال عن المقال، وأنك لست تجد إنسانًا كثير الكلام إلا كان قليل العمل.
يقولون: أن العربة الفارغة هي الأكثر جلبة، وثمة من لا يدافع عن رأي يعتقده بقدر ما يدافع عن واقعه الخاص ومشكلاته الذاتية، فلا يفرق بين رأيه وذاته، أو ما يؤرقه، فتراه يتشنج بطريقة تجعلك تستبعد ذلك التشنج لأجل الرأي المجرد.
ولا بد أن تدرك أن ذلك الرأي ما هو إلا لوحة متقنة رسم فيها المجادل ذاته وأيامه ولياليه وحوادثه. وثمة من تحدثه وتقدم له الحجة، فيكون في صممٍ ناتجٍ عن إغلاق منافذ الوعي عنده لانشغاله بتجهيز حجة ما، أو دحض قولٍ ما، فهو منشغلَ بتلوين رأيه عن النظر إلى رأيك، وعن سماع كلامك.
وأصعب ما في الحوار هو: ما أن تنتهي من كلامك حتى يظهر لك المقابل بسؤال ما، أو استطراد يوحي بأنه لم يسمع شيئاً من كلامك وتوضيحك. والنصيحة هي أن تنسحب حين تجد مثل هذا الشخص دون اعتذار.
وهناك صنف آخر من المتحاورين ممن يضيق صدره بالحقيقة، أو يتحامل لسبب ما شخصي، فإنه يذهب إلى خانة أخرى للهجوم عليك في الحوار، كان يشير إلى أخطائك، أو بعض صفاتك التي لا تعجبه، أو بعض الأعمال التي لم تنجزها بعد، المهم أنه يريد أن يجد فيك عيباً، فلا ينظر بعين الرضا إنما ينظر بعين السخط أو الحقد أو الحسد، فيبدي المساويا.
وهو أسلوب في الحقيقة غير نزيه، وغير أخلاقي، ومختل المعايير، يستبيح الناس ويفترسهم إذا وجهوا له النقد. فأن تملك حسابًا على منصات التواصل الاجتماعي لا يعني أنك تمتلك الحق بأن تنتقد الناس، أو أن تسيء الأب، وتعدى حدود اللائق. وحفظك لبعض المصطلحات الأجنبية ليس كافياً لتكون خبيراً ومحللاً في شؤون الدول والجماعات والسياسات، فعقلك ما زال بحاجة إلى أشياء كثيرة حتى يدلف إلى مطبخ المعرفة، وهذه الجمجمة التي تحملها على كتفيك بحاجة إلى حشوها بالمعرفة المتنوعة والتجارب، حتى تتمكن من التأمل على الأقل.
والاشد تعبا في هذا النمط من الناس هو: من يتصف ببعض الذكاء ويستطيع أن يغلف نزعاته المريضة بقناع منطقي، أو آية من قرآن أو حديث من سنة فيتعبك شرحاً وتوضيحاً، وهو في الحقيقة يجري خلف أهوائه. وكثير من أهل الأهواء يعلنون أهواءهم بأدلة شرعية أو منطقية ظناً منهم أنهم يريحون ضمائرهم من الوخزات التي تدق بابهم باستمرار.
والاشد تعبا في هذا النمط من الناس هو: من يتصف ببعض الذكاء ويستطيع أن يغلف نزعاته المريضة بقناع منطقي، أو آية من قرآن أو حديث من سنة فيتعبك شرحاً وتوضيحاً
وبقدر ما تنكر الحقائق وترد الواضحات تتشكل مع الأيام طبقات من الوسخ على نظارتك، لذلك امسح نظارتك من الوسخ ونظف قلبك من الران حتى لا تكتشف بعد سنوات من الحوار والأخذ والرد أنك صرت لا ترى شيئاً، وأنك صرت تملك نظارة ترفض الضياء.
وليحذر المحاور أن يدفع الآراء الهشة بالأدلة القوية، فمن شأن ذلك أن يستهلك قوتك الاستدلالية ويهتك عضلاتك الحوارية، فتصور بعض الأفكار يكفي لبطلانها كما قال ابن تيمية. وهذه ليست دعوة لاحتقار الأخرين، بل دعوة لاحتقار التوهمات التي جعلها أصحابها في مقام المعتقدات، وهي لا تعدو أن تكون مهاترات جانبية، ونزقاً تدقيقياً غير سوي.